من بين الاخبار التي لم يلتفت اليها كثير من الناس خبر بثته وكالة رويترز للانباء يوم الخميس الماضي 61 ديسمبر جاء فيه ان محكمة استئناف ايطالية غلظت حكما بالسجن مددا تصل الى 9 سنوات على ثلاثة وعشرين اميركيا يعملون لدى وكالة المخابرات المركزية الاميركية سي آي ايه لخطفهم رجل دين مسلم مصري الاصل هو مصطفى اسامة نصر ـ المشهور باسم أبوعمر المصري ـ من شوارع ميلانو عام 3002 حيث جرى تسليمه الى مصر لاستجوابه بتهم لم يرتكبها وتعرض هناك لتعذيب وحشي ثم افرج عنه بعد اربع سنوات. المحكمة حكمت بأقصى عقوبة وهي تسع سنوات على رئيس محطة سي آي إيه السابق في ميلانو روبرت سلدون وهو حكم اقسى من الحكم الذي كانت قد حكمت به محكمة ابتدائية في العام الماضي 9002 وهو ثماني سنوات، كما صدر الحكم على 22 آخرين بينهم لفتنانت كولونيل في القوات الاميركية لسبع سنوات لكل منهم وهو اقسى من الحكم السابق وكان خمس سنوات فقط لكل منهم، وقد صدرت الاحكام كلها غيابيا على عملاء السي آي ايه لهروبوهم خارج ايطاليا، ويعتبر هذا الحكم ضربة قاصمة لسي آي ايه وسط الاخفاقات المتتالية لعملها والضغوط التي مورست عليها لتجاوزاتها بحق الانسانية لا سيما بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر.
تعود جذور القضية الى يوم الجمعة 61 فبراير من عام 7002 حينما اصدر قاض ايطالي في مدينة ميلانو قرارا بإحالة الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الايطالي نيكولو بولاري وخمسة ايطاليين آخرين علاوة على اثنين وعشرين عميلا تابعين لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية «سي آي إيه» وضابطا اميركيا يعمل بسلاح الجو إلى المحاكمة بتهمة خطف الامام المصري السابق لمسجد ميلانو حسن مصطفى اسامة نصر ـ المشهور باسم أبوعمر المصري ـ من احد شوارع ميلانو في 71 فبراير 3002 حيث شكل هذا القرار في حينه ضربة قاصمة لوكالة المخابرات المركزية الاميركية «سي آي ايه» اكبر جهاز استخباراتي لاكبر دولة في العالم واكثرها ارتكابا للجرائم وتجاوزا للقوانين حسبما يوصف من كثير من المراقبين، وقد جاء القرار في اعقاب قرار اصدرته سلطات الادعاء الالمانية في 13 يناير 7002 باعتقال ثلاثة عشر من عملاء السي آي ايه لهم علاقة باختطاف المواطن الالماني من اصل لبناني خالد المصري في عام 4002، حيث اعتقل المصري في مقدونيا وتم نقله الى سجن سري في افغانستان ذاق فيه ألوانا من التعذيب قبل ان يطلق سراحه ويلقى في إحدى المناطق النائية، وكان المدعون الالمان قد قالوا سابقا انهم تلقوا من محققين اسبان اسماء عشرين من العملاء السريين الاميركيين للسي آي ايه متهمين بالتورط في عملية الاختطاف التي جرت في عام 4002.
الالمان رضخوا للضغوط الاميركية غير ان القضاة الايطاليين واصلوا القضية حيث صدر حكم أولي في عام 9002 ثم تبعه حكم محكمة الاستئناف الاعلى والذي صدر الخميس 61 ديسمبر 0102 بتشديد العقوبات غير انه أسقط الاتهامات الموجهة للرئيس الاسبق للمخابرات العسكرية الايطالية نيكولاي بولاري بسبب اعتباره الادلة التي قدمت في حقه تنتهك قواعد السرية.
محاكمة هؤلاء العملاء جاءت في ظل ادانة برلمان الاتحاد الاوروبي في 41 فبراير 7002 لأربع عشرة دولة اوروبية شاركت في تسهيل رحلات جوية تقل معتقلين ومختطفين نقلتهم السي آي ايه عبر مطاراتها الى غوانتانامو او معتقلات سرية اخرى مجهولة الاماكن.
كنت في ايطاليا حينما كشفت تفاصيل كثيرة لهذه القضية المثيرة وتابعتها عن قرب، حيث اعلن المدعي العام الايطالي في قضايا الارهاب ارماندو سباتارو في الاول من يونيو من عام 6002 المضي قدما في اجراءات محاكمة عملاء السي آي ايه بعدما اصدر اوامر باعتقالهم واتهم وزارتي العدل الاميركية والمصرية بعدم التعاون الكافي في التحقيقات، وفي 12 يوليو من العام 6002 طلب الادعاء الايطالي من وزير العدل مطالبة الولايات المتحدة بتسليم العملاء الستة والعشرين بعدما اضاف الى المتهمين اربعة آخرين احدهم لفتنانت كولونيل يعمل في قاعدة افيانو، وبالفعل قام وزير العدل الايطالي روبرتو كاستيللي بالتوقيع على اوامر الاعتقال ورغم ان المسؤولين قالوا انها خطوة ضمن الشكليات المعمول بها الا انها تجعل رجال الـ «سي آي ايه» المتهمين تحت طائلة الاعتقال في اي من دول الاتحاد الاوروبي جميعها، وكانت حكومة رئيس الوزراء آنذاك سيلفيو بيرلسكوني قد رفضت طلبا سابقا من الادعاء الايطالي للمطالبة بتسليم العملاء، لكن حكومة رومانو برودي ـ التي جاءت بعد بيرلسكوني ثم اجبرت بعد ذلك على الاستقالة وعاد بيرلسكوني من جديد ـ كان موقفها مناقضا لموقف حكومة بيرلسكوني التي كانت موالية تماما للولايات المتحدة، وفي العشرين من نوفمبر من عام 6002 اصبح الموقف دراماتيكيا حينما اتخذت الحكومة الايطالية برئاسة رومانو برودي قرارا بإقالة نيكولو بلاري قائد الاستخبارات العسكرية الذي كان يعد من اقوى رجال الدولة في عهد بيرلسكوني، وكذلك الجنرال ماريو موري قائد الاستخبارات الداخلية، كما اقيل ديل ميسيزي قائد الجهاز المشرف على التنسيق بين جهازي الاستخبارات العسكرية والداخلية، وبحث وقتها توجيه اتهامات لقائد الاستخبارات العسكرية بالتواطؤ مع وكالة المخابرات المركزية الاميركية «سي آي ايه» في اختطاف الامام المصري، واعتبرت تلك القرارات في ذلك الوقت محاولة من الحكومة لحفظ ماء وجهها وضربة قاصمة للمتعاونين الايطاليين مع الـ «سي آي ايه» ولجهاز الـ «سي آي ايه» نفسه، وقد دفعت هذه الإقالات القضاء الايطالي لتوجيه الاتهامات رسميا لرئيس الاستخبارات العسكرية واعتقاله هو وخمسة آخرين حيث فتحت لهم ملفات اخرى ربما تودي بهم في غياهب السجون لفترات طويلة.
اما رجال السي آي ايه المتهمون فإن من بينهم رئيس محطة السي آي ايه في ميلانو جيف كاستيلي، والرئيس السابق للمحطة روبرت سيلدون ليدي، وهؤلاء مسؤولون رفيعو المستوى في الـ «سي آي ايه» وكان احدهم وهو ليدي قد اشترى فيلا فاخرة في ميلانو حتى يقضي فيها باقي عمره بعد التقاعد، لكن الامر تحول لاحتمال ان يقضيه ـ ان قبض عليه ـ في احدى زنازين ميلانو بعد الحكم عليه بتسع سنوات من محكمة الاستئناف.
ان هذه المحاكمة من قضاء دولة حليفة للولايات المتحدة يكشف حجم الازمة الكبيرة التي تعيشها السي آي ايه والاخفاقات المتتالية لهذا الجهاز الذي تضم ملفاته اكبر الجرائم في تاريخ البشرية، ويفتح المجال بإمكانية محاكمة السي آي ايه وعملائها في شتى انحاء الدول التي بها قضاء عادل لا تسيطر عليه الحكومات حتى لو كانت حليفة للولايات المتحدة.
الوطن القطرية