كنت قلقا إلى حد بعيد وأنا أرقب فعاليات مليونية «وحدة الصف والإرداة الشعبية» التي دعت لها القوى السياسية والإسلامية المصرية في ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي 29 يوليو، ومصدر قلقي لم يكن في الحشود الهائلة التي قام التيار السلفي بحشدها في الميدان حتى أنها غطت على باقي القوى الأخرى، ولكن في الطريقة التي سوف يتناول بها الإعلاميون والكتاب المصريون وكذلك الإعلام العالمي هذا المشهد ويحلل بها هذه الهتافات التي كانت في جملتها ومضمونها شكلا من أشكال التحدي والاستفزاز للآخر، وزاد قلقي حينما علمت أن القوى الليبرالية التي لها منصة دائمة منذ اعتصامات ميدان التحرير الأولى خلال أيام الثورة في الفترة من 28 يناير وحتى 11 فبراير تاريخ خلع حسني مبارك، قد غادرت المنصة التي تقع في الجهة المواجهة لمجمع التحرير ومعها قوى أخرى احتجاجا على هتافات السلفيين التي أقصت الآخرين ـ كما يقول الليبراليون ـ الذين عقدوا مؤتمرا صحفيا شنوا فيه هجوما شديدا على الإسلاميين بشكل عام وقالوا ان هذا يخالف ما اتفقوا عليه، وقد ذهبت فعلا في الساعة الثالثة إلى منصة الائتلاف فوجدت المنصة خالية.
سألت الدكتور ممدوح حمزة المقرب كثيرا من تيار ائتلاف شباب الثورة عن رأيه في الانسحاب الذي حدث والمؤتمر الصحفي الذي شن فيه الليبراليون الهجوم على الإسلاميين فقال «أنا ضد الانسحاب الذي حدث والثورة تستوعب الجميع وميدان التحرير لكل المصريين وكما أنه ليس من حق فصيل أن يسيطر على الميدان فإن الانسحاب أمر غير مقبول وكان يجب عليهم أن يحاوروا السلفيين الإسلاميين بدلا من الانسحاب وقد قمت بهذا فقد حاورت هؤلاء واكتشفت أنهم شباب طيب القلب قوي البنية يمكن أن يقوم بدور هام في اعادة بناء مصر من جديد»، أما الدكتور صفوت حجازي الذي يلعب دورا هاما في التنسيق بين الإسلاميين وغيرهم من القوى الأخرى فقد قال لي: نحن لم نتفق مع أحد على شيء وكما هو حق لليبراليين أن يعبروا عن شعاراتهم وعن أفكارهم بكل الوسائل المتاحة لهم وقد فعلوا هذا طوال الأشهر الماضية في كل المليونيات، فإن من حق الآخرين أيا كانوا أن يعبروا عن ذلك، ففي مليونيات الوحدة الوطنية كنا نسمح للأقباط وللمسلمين أن يعبروا بكافة الأشكال والشعارات عما يريدون، لأن هذا هو الشعب المصري وهذا هو ميدان التحرير يتسع للجميع.
من هنا فإننا لا نستطيع أن نلوم الإعلام الغربي في وسائل وطرق وأساليب تغطيته لأي فعالية تتم سواء في ميدان التحرير أو غيره لكن ما آلمني أن أجد كثيرا من الإعلاميين المصريين الذين ربما كثير منهم لم يذهبوا إلى ميدان التحرير يكتبون أو يديرون برامجهم عبر الإشاعات والأكاذيب التي يرددها البعض عما دار ويدور في الميدان، ويأتي هذا في إطار غضب شديد بداخلي مما آل اليه أمر الإعلام المصري بعد الثورة حتى من بعض الشخصيات التي كان لها دور مهم في الثورة ودعمها، فقد انحاز كثيرون إلى المفاهيم الضيقة التي ينتمون اليها بأفكارهم وأغلبها ليس ليبراليا يتسع للآخر وانما علماني معاد للإسلام والهوية العربية التي هي هوية مصر وشعبها، من حق كل انسان أن يعتنق الأفكار التي يريد وأن يروج لها بالشكل الذي يراه مناسبا، لكن ليس من حق الإعلاميين والمفكرين وهم مؤتمنون على الأمة والناس أن يروجوا الأكاذيب والإشاعات عبر برامجهم وكتاباتهم، وهي أكاذيب واشاعات تصب في اطار كراهيتهم لكل ما هو اسلامي، وهذا يعني كراهيتهم لهوية هذا البلد وتاريخه وعراقته وشعبه الذي يؤمن بالإسلام دينا ؟ لقد شاهدت برامج مليئة بالأكاذيب يرددها مقدمو هذه البرامج وأعمدة ومقالات مليئة بالافتراءات كتبها آخرون يعادون هوية مصر وشعبها.
شخصيا لم أكن راضيا عن كثير مما كان يحدث في ميدان التحرير من استعراض عضلات من بعض القوى الإسلامية التي لم يكن لها وجود فعلي في الثورة بل كان بعض شيوخها وليس كلهم يحرمون المشاركة في الثورة لأنها خروج على ولي الأمر، لكن من يستطيع أن يمنع هؤلاء أو يحول بينهم وبين أن ينزلوا إلى ميدان التحرير ليعبروا عما يريدون بسلام وأمان ويهتفوا حتى تجف حناجرهم ويرفعوا لافتات طالما حلموا أن يرفعوها ثم يعودوا آخر اليوم إلى بيوتهم سعداء بما قاموا به دون أن يغير ذلك شيئا من المشهد أو الواقع سوى أن يستخدم الليبراليون هذا المشهد لصناعة الفزاعة من الإسلاميين ومن وجودهم ربما في المجتمع.
ان ما حدث من بعض الإسلاميين في ميدان التحرير كان استعراضا للعضلات يوضع في اطاره الذي يخلو من الوعي والحنكة، ورغبة عن التعبير بها تحد للآخر يخلو من الرؤية ومع ذلك فإنها تحترم طالما التزمت بالأمن وحافظت على الاستقرار، وما حدث من أغلب الكتاب والإعلاميين الليبراليين هو في تصوري شكل من أشكال التدليس لأنهم لم ينزلوا الميدان أو نزلوا من أجل أن يكتبوا عن السلبيات ويستخدموا سياسة التخويف والإقصاء للآخر التي يسعون لممارستها عبر سيطرتهم على معظم وسائل الإعلام المقروءة والمشاهدة في مصر.
ان الديمقراطية التي يتشدق بها كثيرون تعني قبول الجميع ضمن مكونات المجتمع أيا كانت انتماءاتهم طالما أنهم يلتزمون بالضوابط والقوانين وتتيح للجميع أن يعبروا عما يريدون طالما أنهم لا يعتدون على أحد، وتفتح المجال لنقاش مجتمعي يقوم على قبول الآخر وتفهم خلفياته والسعي للبحث عن أرضية مشتركة يتعايش عليها الجميع أما الانسحاب في هذه المواطن فهو لا ينم الا عن الضعف وعدم القدرة على المواجهة والنقاش والتغيير، بل واقصاء الآخر.
ان محاولات الإقصاء والتخندق وراء القنوات الفضائية والصحف وشن هجوم غير منطقي وعلمي مليء بالتحريض والأكاذيب على الإسلاميين بشكل عام لن يحل المشكلة فمصر للجميع وما كان يحدث قبل 25 يناير لن يحدث بعدها ومن حق كل المصريين ـ عدا المتورطين في العمل ضد هذا الشعب ـ أن يقولوا ما يريدون ويطالبوا بما يريدون طالما أنهم لايعتدون على حرمات الناس وعلى أمن البلاد، وما دام الجميع قد ارتضى الشعب حكما فليقبلوا بحكم الشعب دون وصاية أو تشويه والا فإننا سنعود إلى الديكتاتورية مرة أخرى ولكن بشكل آخر.
الوطن القطرية