حالة الاستقطاب القائمة الآن على الساحة السياسية المصرية بين الاسلاميين وبين الليبراليين أو العلمانيين بأطيافهم المختلفة هي حالة طبيعية تقتضيها المرحلة لكن اللغة التي تستخدم فيها غير مقبولة وهي لغة تختلف تماما عن اللغة والروح التي سادت ميدان التحرير وسائر الساحات والميادين وحتى الأحياء والقرى والمدن في مصر خلال أيام الثورة، ففي تلك الأيام التي امتدت من الخامس والعشرين من يناير وحتى الحادي عشر من فبراير، عاد الانسان المصري الى أصله وأصالته بعدما أزال عن جسده وروحه الأدران والأوساخ التي ألصقها النظام الفاسد السابق به طوال العقود الماضية، وأصبحت الأمنية الأساسية لدى كل من شاركوا في الثورة ـ وهم نسبة كبيرة من الشعب المصري ـ أن يتحلى المصريون بتلك الروح التي سادت خلال أيام الثورة وأن يعود الأنسان المصري الى أصالته وعراقته وأن تصبح مصر المحضن الرئيسي لكل العرب من خلال ارثها التاريخي والحضاري وأصالة أهلها، غير أن عملية اعادة بناء الأمم ليست سهلة وليست صعبة كذلك ان توفرت الارادة والعزيمة والرؤية لدى أهلها ولدى قائد أو زعيم موهوب يرسله الله ليأخذ الناس الى طريق الخلاص.
وفي هذا الاطار تسود اطروحات مختلفة حول مستقبل الثورة المصرية التي لم تنجز حتى الآن سوى المرحلة الاولى من مراحلها منها ما يتحدث عن التجربة التركية ومنها ما يتحدث عن تجربة دول أوروبا الشرقية أو أميركا اللاتينية أو اسبانيا التي استطاعت خلال عقد واحد بعد تحررها من حكم الدكتاتور فرانكو أن تصبح واحدة من أكثر الدول الأوروبية استقطابا للسياحة والنمو في المجالات المختلفة، واذا كان لنا أن نستفيد في عملية اعادة بناء مصر من كل تجارب الأمم الأخرى التي مرت بتجارب مشابهة ثم أعادت بناء نفسها، فيجب أن ندرك أن الثورة المصرية لم تكن مشابهة لأي من الثورات التي سبقتها في التاريخ ومن ثم فيجب أن تكون صناعة المستقبل في مصر صناعة مصرية خالصة ومن افرازات وروح الثورة.
فالثورة المصرية هي أول ثورة في التاريخ تحظى بتغطية اعلامية مباشرة على مدار الساعة وهي أول ثورة في التاريخ يشاهدها العالم أجمع، وأول ثورة في التاريخ تسود فيها روح المحبة والمودة والتكافل والتآزر والود، وهي أول ثورة في التاريخ تقوم على قيادة شعب كامل لها عمل من خلال العقل الجمعي المصري المتوافق والمتكامل على اتمامها حيث تحمل كل مسؤوليته دون توجيه أو طلب، وذابت بين الناس الاختلافات المذهبية والفكرية والثقافية والاجتماعية وانصهر الناس في بوتقة واحدة هي بوتقة الأنسان المصري، فجمهورية ميدان التحرير كما أحب أن أطلق عليها كان بها تكافل كامل في كافة مجالات الحياة سار وفق عقلية جمعية متكاملة دون قيادة استوى فيها الانسان البسيط مع أعلى المصريين كفاءة وتعليما ومكانة اجتماعية ممن كان في الميدان، حيث كانت تتخذ القرارات بشكل توافقي ويشارك الجميع فيها كل حسب خبرته ودوره الذي يحدده هو وليس ما يحدده الآخرون له، حتى أن موقعة الجمل التي ستدخل التاريخ على أنها من أبرز المعارك التي وقعت في العصر الحديث بوسائل القرون الوسطى أو ما قبل التاريخ الجمال والخيل والحمير والحجارة، تفرد بها المصريون وأسقطوا بعدها واحدا من أعتى الأنظمة ديكتاتورية واستبدادا في المنطقة، لقد تفردت الثورة المصرية في كل شيء ومن ثم يجب أن نتركها تتفرد في صناعة مستقبلها، ومستقبل مصر دون أن نفرض أي نموذج عليها، اننا نريد للنموذج المصري أن يكتمل وان كانت أمامه تحديات كثيرة داخلية وخارجية، لكن هذه الثورة التي صنعها الله حيث يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك عمن يشاء، أمامها مشوار طويل لكننا نعتقد أن الموجة الاولى لهذه الثورة قد نجحت حتى الآن، وبقيت هناك موجات متعاقبة، حتى يستعيد الشعب المصري الذي صنع هذه الثورة سيادته الكاملة على أرضه ومصيره ومقدراته، ولعل رد الفعل المصري على ما قام به الاسرائيليون يوم الجمعة 19 أغسطس حينما أقدموا على قتل أربعة جنود مصريين على الحدود دليل على أن هذه الثورة تواصل صناعة مستقبلها لقد سبق وأن قتل الاسرائيليون كثيرا من الجنود المصريين في معارك على الحدود كان النظام الفاسد يغطي عليها، ان ما حدث لم ولن يمر الأمر كما كان يحدث من قبل فقد خرج الشعب الذي قام بهذه الثورة ليحاصر سفارة اسرائيل التي زرعها النظام الفاسد في قلب مصر وليقول للاسرائيليين ان الشعب المصري استعاد سيادته على أرضه ومصيره ومقدراته ، وهذا جزء من صناعة الحراك واستكمال هذه الثورة فهؤلاء لم يحشدهم أحد ولم يخرجهم أحد من ثم فان هذا الشعب الذي صنع هذه الثورة، هو الذي سيصنع مستقبلها رغم ما تكيده أجهزة الاستخبارات العالمية لأن ارادة الشعوب لا يمكن أن يقهرها أحد وقد استعاد الشعب المصري ارادته وليس أمام الذين يقفون أمام هذه الارادة المصرية الا أن يدركوا أن أمامهم طريقين لا ثالث لهما اما أن يحترموا هذه الارادة ويتعاملوا معها بما تمليه هي عليهم واما أن يدخلوا في مواجهة معها وسيكونون هم الخاسرين في النهاية.
الوطن القطرية