بعد حكم المحكمة الدستورية فيما يتعلق بقانون العزل السياسى ومجلس الشعب وما يجرى فى مصر من أحداث خلال الشهرين الأخيرين على وجه الخصوص، لم يعد هناك سوى شىء واحد للعودة إلى نقطة الصفر التى تعنى أن الثورة لم تقم أساسا فى مصر، هذا الشىء هو أن يعلن مساء اليوم أو غدا أن الفريق أحمد شفيق آخر رئيس حكومة فى عهد المخلوع حسنى مبارك أصبح رئيسا لمصر، حينئذ يكون الشعب المصرى والعالم كله قد تأكد أن الثورة المصرية لم تكن سوى وهم وحلم فى أذهان المصريين، لكنهم يفيقون اليوم على الحقيقة وهى أن النظام باق كما هو بكل أركانه ورجاله، وأن مصر لم يتغير فيها شىء سوى أن الرئيس المخلوع قد حكم عليه بالسجن مع بعض وزرائه، وينتظر الخروج فى أى لحظة إما بعفو صحى أو براءة من محكمة النقض، حينئذ يسدل الستار على واحدة من أعظم الثورات فى التاريخ. مجلس الشعب كان السلطة الوحيدة المنتخبة فى مصر، وكان الخطوة الأولى لاسترداد الشعب المصرى سيادته على وطنه وأرضه، هذا المجلس لم يعد له وجود الآن بقوة القانون، وعاد المصريون أدراجهم، والدليل على ذلك أن الثورات تأتى لتزيل أنظمة وتقيم أخرى لكن الثورة المصرية المتفردة قامت لتبقى النظام كما هو الحكومة والمحافظين والمجالس المحلية وكل عناصر ومكونات النظام السابق كما هى فى أماكنها تدير الدولة، فقط خرج المصريون يهتفون فى ميدان التحرير وفى الفضائيات فيما تركوا أركان الدولة العميقة تعمل بكل قوتها لتفرق قوى الثوار وتحولها إلى عناصر متكالبة على السلطة بل وتتهمها بأنها هى التى قتلت الثوار وأدخلت البلاد فى أزماتها المتلاحقة مما جعل الجميع يفقد السلطة لصالح النظام الذى لم يسقط. ما زلت أذكر أيام ميدان التحرير الأولى وتلك الروح التى جمعت المصريين بكل طوائفهم وانتماءاتهم الدينية والسياسية، خلع الجميع ثياب الانتماءات الحزبية والسياسية وكانت الهوية «ارفع راسك فوق إنت مصرى» فتزلزل عرش الديكتاتور مبارك وسقط كنمر من ورق، لكن بقى رجاله كما هم فى كل مكان، ونسى كثير من الثوار أن الثورات حينما تقوم تزيل الأنظمة وتبنى أخرى، لكنهم لم يبقوا على النظام فحسب بل منحوه الشرعية، فاستطاع النظام أن يعيد إنتاج نفسه بهدوء، وتمكن وهو يعيد إنتاج نفسه أن يعيد الثوار إلى انتماءاتهم وصراعاتهم وخلافاتهم، فأصبحوا على ما هم عليه الآن ينهشون لحم بعضهم البعض، وبينما كان يحلم البعض بالجلوس مع ضابط أمن الدولة فى منطقته قبل الثورة ليحل مشكلته الأمنية فوجئ بعدها بأنه أصبح يجلس مع رجال السلطة من قادة المجلس العسكرى والوزراء والمسئولين، وفرح البعض بلقاءات وجلسات واتصالات هاتفية من بعض الضباط، وكان معظمهم يخرج من لقاءات المجلس العسكرى ليدور على المحطات الفضائية ليروى تفاصيل لقائه الخاص وما أسر به العسكر إليه من أسرار ونوايا وخطط وأهداف، أو تحديدا ما أملى عليه أو سرب له ليرويه، ونسى الجميع أن العسكر يحكمون مصر منذ ستين عاما وهم الأكثر معرفة بما يدور داخل الدولة ودواليب السلطة، صحيح أنهم ارتبكوا فى البداية وصحيح أنهم فعلا كانوا يبحثون عن مخرج لكنهم لم يفكروا على الإطلاق بأن يتنازلوا عن السلطة كما يعتقد بعض السذج، من خلال عملية انتخابية أو غيرها، وكان الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر من أكثر الناس صدقا مع نفسه ومع المصريين حينما قال بعد لقاء له مع قادة المجلس العسكرى قبل عدة أشهر: «إن العسكر لن يسلموا السلطة بسهولة»، أنا صدقت كارتر ونشرت مقولته على نطاق واسع، لكنى للأسف وجدت كثيرين يصدقون المجلس العسكرى، وها نحن نعود اليوم إلى نقطة الصفر، لكن الشعب الذى أنهك وأجهد وأفقر وجوِّع وشرِّد وأصبحت لقمة العيش هى داؤه الذى يركض وراءه بالليل والنهار، هل هذا الشعب لديه استعداد مرة أخرى أن يستعيد ثورته التى سرقت، ويسقط النظام ويزيله هذه المرة، أم أنه سيعود ليردد المقولة الأثيرة التى كان يرددها قبل الثورة: «مفيش فايدة يا صفية»؟!