ربما كنت الإعلامى العربى الوحيد الذى أجرى ثلاثة لقاءات مطولة مع جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيلكس الشهير الذى نشر ملايين الوثائق السرية، التى فضحت التحركات الدبلوماسية والسرية لكثير من الأنظمة والدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تمكنت من إجراء لقائى الأول مع أسانج بعد ثلاثة أشهر من الملاحقة عبر الهاتف وعبر أصدقاء مشتركين إلى أن تمكنت من الإمساك به وأجريت حوارى الأول معه فى العاصمة البريطانية لندن فى السابع والعشرين من أكتوبر من العام 2010، وذلك فى أعقاب نشر الموقع أربعمائة ألف وثيقة دفعة واحدة، وكانت تلك هى المرة الأولى فى التاريخ التى يتم فيها تسريب هذا الكم من الوثائق. ورغم أن جوليان أسانج أسس موقعه فى العام 2006 فإنه اكتسب شهرته الأكبر فى العام 2010 وتحديدا بعدما نشر فى شهر أكتوبر هذا الكم الهائل من الوثائق السرية العسكرية والدبلوماسية، مما وضع الولايات المتحدة وحلفاءها فى مأزق كبير. لكن الأكثر إثارة من الموقع هو مؤسسه جوليان أسانج الذى تحول إلى أسطورة لدى البعض حيث يعتبره الكثيرون من أكثر الناس غموضا وربما ذكاء على ظهر الكوكب، أسانج الذى ولد شمال أستراليا كان مولعا بالرياضيات والكمبيوتر حتى وصل إلى مرحلة العبقرية، وأدين بتهمة القرصنة الإلكترونية عام 1995، بذل بعدها جهدا خارقا فى صناعة برامج التشفير للكمبيوتر والمعلومات، وأصبح واحدا من أكثر الخبراء فى العالم دراية بها، حتى إنه حينما أسس موقعه فى العام 2005 وضع له نظام تشفير معقد للغاية فشلت أكبر أجهزة الاستخبارات فى العالم على أن تلاحقه أو تدمره. وفى لقائىّ الثانى والثالث اللذين أجريتهما معه فى 22 و29 ديسمبر من العام 2010، أتيحت لى فرصة الجلوس لعدة أيام مع أسانج الذى كان يلاحق قضائيا بتهمة الاغتصاب وحكمت عليه المحكمة بالإقامة الجبرية، فاختار مكانا فى عمق الريف الإنجليزى فى بيت إلينجتون هول فى منطقة نورفولك فى شرق بريطانيا حيث أقام فيه فى ذلك الوقت. وصلت إلى مطار هيثرو مع الزميل أحمد إبراهيم من قناة الجزيرة الإنجليزية وذهبنا مباشرة إلى حيث كان يقيم أسانج على مسافة فى عمق الريف الإنجليزى تزيد عن ثلاث ساعات فى شتاء بارد قارس وطقس ضبابى ممطر، ولأن المنطقة ريفية لم نجد مكانا ننام فيه سوى بيت داخل مزرعة يؤجر أصحابها بعض غرفها لمن يمرون فى المنطقة ولا يجدون ملجأ، ولأن البريطانيين يشتهرون بالبخل فإنهم يطفئون أجهزة التدفئة فى الليل، ولم أدرك ذلك إلا حينما استيقظت قبل الفجر وأنا أشعر ببرد شديد، أذكر أننى بقيت حتى الصباح أكاد أتجمد من البرد دون أن تفلح كافة الأغطية فى تدفئتى، ثم أوصيت صاحبة البيت ألا تغلق جهاز التدفئة ليلا وسوف أعطيها المال الذى تريد، وفعلت، ومن الطرائف أننى حينما جلست مع أحمد إبراهيم نتحدث معها هى وزوجها فى الصباح عما يقومون بزراعته وما يربونه من حيوانات اكتشفنا أنها مزرعة خنازير، قلت لأحمد إبراهيم وهو الذى كان قد رتب الأمر وأنا غارق فى الضحك: «هل ضاقت الدنيا فى البحث عن مكان ننام فيه حتى تأتى بنا ننام فى مزرعة خنازير فى النهاية؟!»، لكن الأمر لم يكن فيه بد، فأقرب فندق كان على مسافة بعيدة، ولم تكن فنادق بالمعنى المعروف ولكنها نُزل توفر المأوى والمبيت. كان أسانج يقيم فى بيت صديق تعرف عليه، لكن زوجة صاحبه هذا كانت مادية جشعة إلى أبعد الحدود، حينما ذهبت إلى أسانج وكان زملائى قد سبقونى بأجهزة التصوير والبث، وجدت صاحبة البيت تصرخ وصوتها عالٍ بشكل مزعج، ولا شىء يستفزنى قدر صوت المرأة حينما يعلو وتفقد أنوثتها ورقتها، قلت لزملائى: «ماذا تريد هذه السيدة؟!»، قالوا: «تبدى غضبها وتبرمها حتى نعطيها بعض المال»، قلت لهم: «هل جاؤوا بأسانج هنا حتى يتاجروا بوجوده؟»، قالوا لى: «هؤلاء هم الإنجليز!»، قلت لهم: «أخبروها أننا سنعطيها المال بعد انتهاء المقابلة». (نكمل غدا).