مصـــــر : احتقــــان شـــعبي وعجـــز سلطوي

تلقيت مكالمة هاتفية مساء الأحد الماضي من أحد الذين شاركوني قبل سنوات في إحدى حلقاتي من برنامج «بلاحدود» وسرعان ما تذكرت الرجل الذي يعتبر احد أساتذة ومؤلفي الموسيقى السيمفونية المصريين العرب المميزين عالميا، وسألني الرجل بعد مقدمة الحديث قائلا: هل تابعت قضية مقتل الشاب خالد سعيد الذي قتل على أيدي رجال الشرطة داخل قسم شرطة سيدي جابر في الاسكندرية قبل أيام؟ قلت له: نعم ومن لم يتابعها؟ لقد هزت الجميع، قال الرجل: كان ابني أحد هؤلاء الذين هزتهم هذه الجريمة، وهو طالب في جامعة القاهرة خرج اليوم مع زملائه للتعبير عن غضبهم مما حدث في تظاهرة سلمية يطالبون بمعاقبة الجناة لأن دماء المصريين ليست هينة الى هذا الحد، فقبض عليه مع كثير من زملائه اثناء تظاهرهم أمام وزارة الداخلية، وأنا لا أعرف عنه الآن شيئا سوى انه تحت الاعتقال، وأنا لا اتصل بك حتى تبحث لي عمن يساعدني في معرفة مصير ابني، فمعارفي كثيرة واتصلت بالكثيرين منهم، ولكني اتصلت بك لأني شعرت ان ما حدث لخالد سعيد وما حدث لابني قد حولني الى انسان آخر، لقد ابلغني ابني بالامس انه يريد الخروج مع زملائه للمشاركة في التظاهرة، لكني طلبت منه عدم المشاركة، لأني انسان مسالم وليس لي أي نشاط سياسي، وكما يقول المصريون «ماشي جنب الحيط طول عمري» وليس لي اهتمام سوى بنشاطي المهني، لكن ابني لم ينصت إلي وخرج مع زملائه للمشاركة في التظاهرة، وقد شارك وقبض عليه، وقد هزني هذا الموقف وحولني الى إنسان آخر كان معزولا عن هموم الناس وهموم وطنه الى انسان قرر ان يعيشها وان يشارك فيها، انا أكلمك وابني معتقل ولا اعرف مصيره، لكن اقول لك لقد طلبت من ابني عدم المشاركة في التظاهرة امس لكن الآن بعدما علمت انه شارك وقبض عليه، لن ادفعه الى المشاركة في التظاهرات السلمية القادمة ضد الظلم الذي يمارسه هذا النظام ضد الشعب فحسب بل سأخرج لأول مرة في حياتي وأنا في هذا العمر لاشارك في هذه التظاهرات، إن ما يحدث من قبل النظام والأمن تحديدا هو انهم يريدون تدمير الرجولة في هذا الشعب، ونزع الروح الوطنية والإنسانية منه وتحويله الى نعاج تنتظر الذبح حينما يريد الجزار ذلك، لقد تصورت ان خالد سعيد هذا هو ابني ولا اعرف ما هي الجريمة التي ارتكبها سوى انه أراد أن يحافظ على كرامته وان يقول لهؤلاء المجرمين الذين قتلوه ان الإنسان المصري له كرامة، وإذا كان هناك من نجح في إهانة كرامته من خلال استبدادكم فإن معظم الشعب مازال يعتز بكرامته.
بقيت منصتا والرجل يتحدث على هذا المنوال ما يزيد على عشرين دقيقة وانا اقول في نفسي، هل من المعقول ان يكون هذا هو الرجل الرقيق المرهف الحس والمشاعر والأحاسيس الذي شعرت من مقطوعته الموسيقية التي شارك معي بها في برنامجي انه عبارة عن مشاعر واحاسيس رقيقة تتحرك على الارض كيف حوله هذا النظام الغبي في لحظة واحدة الى احد اعدائه كما حول معظم الشعب؟
وقلت له بعدها: لن اتركك وحدك طالما اتصلت بي ولكنني سأسعى من خلال زملائي الذين يتابعون الاحداث ان اوافيك بما لدي من معلومات سواء عن مصير ابنك او مصير الباقين.
بقيت عدة ساعات اتابع الامر عبر بعض الزملاء الصحفيين حتى علمت ان هؤلاء الفتية قد قبض عليهم امام وزارة الداخلية وسط القاهرة حيث ثاروا ضد رجال الامن بعدما تمكن بعض رجال الأمن الذين يرتدون الملابس المدنية من اختراق التظاهرة وضرب بعض الفتيات اللائي كن يشاركن فيها ونزع حجابهن من على رؤوسهن وسحلهن في الشارع على مرأى من المتظاهرين – حسب الرواية التي وصلتني.
وهذه ليست المرة الاولى التي يقوم رجال الامن فيها بممارسة ذلك مما اثار المشاركين فقام رجال الامن بالقبض على اكثر من عشرين منهم وحملوهم في شاحنات الامن المركزي الكبيرة، واخذوا يطوفون بهم في شوارع القاهرة عدة ساعات ثم اخذوا ينادون على كل واحد منهم ويلقونه من السيارة في اي مكان.
وقد دفع تأزم الوضع والاحتقان العام رجال الامن الى عدم التصعيد اكثر من ذلك والافراج عن المعتقلين بهذه الطريقة تحدثت الى الرجل لأخبره بما لدي من معلومات فأبلغني انه كان على وشك الاتصال بي ليبلغني ان ابنه كلمه قبل قليل وابلغه انهم ألقوه من السيارة على طريق الاوتوستراد واستأنف الرجل قائلا: لقد كان ابني منزعجا وخائفا من ان ألومه على ما قام به لكنه فوجئ بي وأنا اقول له في المرة القادمة لا تذهب وحدك فقال لي: وهل ستسمح لي بالمشاركة في التظاهرات القادمة يا ابي، قلت له: لن اسمح لك وحدك ولكن ابلغني حتى أشارك معك.
هذه القصة دون رتوش قصة انسان مصري عادي قرر ألا يكون سلبيا ردا على ما تقوم به الاجهزة الامنية في مصر من عقاب جماعي للشعب وقمع وتعذيب وقتل حتى الموت ثم يريدون من الشعب ان يتحول الى نعاج كل منها ينتظر دوره في الذبح.
يأتي هذا في ظل الازمة التي وقعت في الاسبوع الماضي بين المحامين والقضاة في مصر والتي كشفت عن حجم ومساحة الاحتقان الذي يملأ كافة طبقات وفئات المجتمع المصري ذلك الاحتقان الذي لم يعد تجد له فئات الشعب المختلفة مع القمع الامني الذي تعيش في اطاره سبيلا غير تفريغ شحنات الغضب التي تملأ نفوسها في بعضها البعض.
المشكلة بين المحامين والقضاة ليست وليدة خلاف وتلاسن بين محام ورئيس نيابة كما ظهرت لكن هذا الحادث كان القشة التي قصمت ظهر البعير وفجرت الاحتقان الذي يتراكم بين الطرفين منذ مدة طويلة فأخرج كل طرف بعده كل الغضب المكبوت في داخله فظهر بالشكل المؤلم الذي ظهر به بين فئتين من المفترض انهما في مصر وفي كل الدنيا من ارقى طبقات المجتمع.
الغريب في الامر هو ردود الفعل الرسمية التي اتسمت بالسلبية من قبل كبار المسؤولين وكأن كل واحد ينأى بنفسه عن ان يدخل طرفا لحل المشكلة او احتوائها وهذا ما اصبح يحدث في كل مناحي الحياة وبين كافة فئات المجتمع، فالمضربون الدائمون أمام مجلس الشعب من فئات الشعب المختلفة لا يجدون من يسمعهم او يهتم بهم كما ان الذين شاركوا في مئات الاضرابات التي عمت مصر خلال السنوات الثلاث الاخيرة لم يكونوا يجدون من يسمعهم أو ينصت لهم إلا بعد أن يبلغ السيل الزبى، ثم لا يجدون الحلول التي كانوا ينشدونها وهذا ما جعل كل فئات الشعب المصري تعيش حالة احتقان مع عجز كامل من النظام في حل مشاكل الناس وإنما ترحيل كل شيء إلى المستقبل المجهول الذي تعيشه أكبر دولة عربية.
لقد أصبح رهان رجال النظام منحصرا في الحفاظ على الكراسي التي يجلسون عليها وحجم الاستفادات التي تأتي من ورائها باستثناء قلة من المخلصين هي التي يحفظ الله مصر بها، وإلا فإن كل المعطيات القائمة في المجتمع لا تؤدي إلا إلى نتائج كارثية بدأت تظهر في كل جنبات الحياة مما يجعل الحليم حيرانا.
وأصبح السؤال الذي يتردد على لسان الجميع إلى أين تسير مصر وأي مستقبل ينتظر أبناءها بعدما فرغ النظام القائم كل شيء من محتواه.
لقد اتصلت بأكثر من شخص ممن يفترض بهم أن تكون لديهم حلول أو رؤى لما يدور وطلبت منهم أن يشاركوا معي في حوار لبيان أسباب تلك الأزمة فأحجم الجميع، وقد تفهمت أسباب إحجامهم، الضبابية تكاد تكون سيدة الموقف كما أن الحساسيات القائمة في المجتمع والتي أفرزتها سنوات الجمود الطويلة للنظام الحاكم جعلت كل إنسان يتحسس مواطئ أقدامه ويعجز في بعض الأحيان عن فهم ما يدور وكذلك فهم ما يمكن أن تؤدي إليه الأمور، أزمة المحامين والقضاة في مصر وتفاقهما ومحاولة لملمتها عبر ترحيلها، وأزمة علاقة الأمن بالشعب، وأزمات الملايين من أبناء الشعب المحتقنين تعكس حجم الكارثة التي تعيشها مصر والتي صنعها النظام الحاكم على مدى ما يقرب من ستة عقود من التكلس والفساد نصفها للحاكم الحالي لمصر أحد أطول ثلاثة حكام في سنوات حكمه ممن حكموا مصر على مدار التاريخ وربما يصبح أطولهم.. لقد أصبح الحليم حيرانا في مصر.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

إسرائيل أضعف بكثير مما تصور به نفسها

التالي

تركيا تعيد ترتيب ميزان القوى الإقليمي

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share