«ويكيليكس» تغير وجه الإعلام و مستقبله

حينما سألت جوليان اسانغ مؤسس موقع ويكيليكس الذي اصبح حديث الدنيا وشاغل الناس عما اذا كان ما قام به قد غير مفهوم صحافة التحقيقات فأجاب بثقة تامة قائلا: هذا ما حدث بالفعل. واضاف اسانغ الذي التقيته في لندن يوم الاربعاء الماضي 27 اكتوبر: ان اهم ما قمنا به هو اننا وضعنا كما هائلا من الوثائق السرية أمام الناس العاديين ليعرفوا الحقيقة كما وقعت وليس كما يقدمه الطرف القوي.
شرح لي اسانغ التكنيك الذي استخدمه في النشر لضمان وصول المعلومة الى اكبر قدر ممكن من البشر، وكيف استفاد من تجاربه السابقة، فعمله الذي بدأه باطلاق موقع ويكيليكس في عام 2006 يقوم على نشر الوثائق السرية بعد التحقق منها ما جعله هدفا لكثير من اجهزة الاستخبارات والقوى العظمى والحكومات المستبدة، حيث تسبب في اسقاط عدد من الحكومات الفاسدة في عدة دول منها كينيا، ومن تغيير كثير من قواعد العمل الصحفي والاعلامي حيث نجح في اقناع بعض المشرعين في عدة دول منها ايسلندا والسويد في تعديل القوانين لتوفر مزيدا من الحماية لحرية المعلومات والصحفيين وحماية مصادرها.
لكن الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على هذه الدول جعلتها تحد من التطبيق الكامل لهذه الحرية، مما جعل اسانغ يتنقل من بلد الى آخر باحثا عن الحماية وعدم الملاحقة مع دعم يلقاه من محامين ومنظمات حماية الصحفيين وحتى بعض العاملين في اجهزة استخباراتية ممن يمدونه بالمعلومات والخطط التي تعد لملاحقته وتدمير موقعه، فالاميركيون يعتبرون انه دمر المنظومة الآمنة لوثائقهم السرية، وقام بتعرية الادارة الاميركية لا سيما ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش حيث اظهرها من خلال الوثائق انها ادارة مارقة تجاوزت الدستور الاميركي وقفزت فوق القوانين وتخطت التشريعات الدولية ومارست جرائم الحرب بكل اشكالها وهي آمنة ومطمئنة ألا أحد يستطيع الولوج الى ادراج خزائن وثائقها السرية او يحاسبهم عما ارتكبوا من جرائم بحق البشرية، ولم يدركوا ان يوما سيأتي في حياتهم وليس بعد مماتهم، لا تكشف فيه الحقائق فقط بل تكون ملقاة على قارعة الطريق في صفحات الصحف والمجلات وعلى شاشات التلفزة ومواقع الانترنت لتثير ذهول العالم ليس فقط لانها كشفت الحقائق ولكن لفظاعة محتوياتها، وكونها وثائق لحرب ما زالت قائمة.
لم يخف اسانغ مخاوفه من ان يتم القبض عليه وملاحقته بتهم جاهزة تعدها الادارة الاميركية او بقوانين يتم تغييرها سريعا لتفصل عليه وعلى فريق العمل الرئيسي الذي يعمل معه والذي لا يزيد على ثلاثين فردا مع ألف متطوع حول العالم، حتى انه قد انهك ماليا بسبب الملاحقة وأصبح موقعه يعاني من مشكلات مالية في التمويل ومشكلات فنية تتعلق بالحجم الهائل من الوثائق التي تتدفق من انحاء الدنيا والتي بحاجة إلى فرق مراجعة وتدقيق قبل نشرها حتى أن عدد الوثائق التي لديه ولم تنشر تبلغ ملايين الوثائق.
الخطوة التقنية الهامة التي قام بها أسانغ هي تغيير وجه الأداء الإعلامي بعمل تحالف يضم مجموعة من أشهر الصحف والمجلات ومحطات التليفزيون في العالم علاوة على موقعه، هذا التحالف ما زال ضيقا للغاية. فمن الصحف يضم من الولايات المتحدة «نيويورك تايمز»، ومن بريطانيا «الغارديان» ومن فرنسا «لوموند» ومن ألمانيا مجلة هي «دير شبيغل» أما المحطات التليفزيونية فهي «الجزيرة» بقسميها «العربي والإنجليزي» والقناة الرابعة البريطانية، وحينما سألت أسانغ لماذا لم تكن هناك محطة تليفزيونية أميركية قال «ان كل المحطات التليفزيونية الأميركية وعلى رأسها سي.إن.إن قد أحجمت عن المشاركة حتى انه عرض على محطة «سي.إن.إن» قبل بث الوثائق أن يفردها بحوار خاص لمدة ساعة يتحدث فيه عن أهم المحتويات لكنهم لم يتجاوبوا مع عرضه.
كما انه انتقد صحيفة «نيويورك تايمز» لأنها أحجمت عن نشر بعض القصص التي نشرتها صحيفة «الغارديان» حول بعض التجاوزات والأوامر العسكرية التي تثبت تورط وتواطؤ القوات الأميركية في عمليات التعذيب، وقال أسانغ «ان هذا التحالف ساعد على وصول الحقيقة الى أكبر قدر ممكن من البشر حيث انه يصل الى الناس عبر كل الوسائل الصحافة والتليفزيون والإنترنت».
وقال أسانغ انه قد يوسع هذا التحالف لكن بحذر حتى يحافظ على سرية الوثائق وعدم تسريبها قبل النشر، وذلك بعدما تلقى طلبات عديدة من محطات تليفزيونية وصحف لتشارك في نشر الوثائق في وقت متزامن. وحينما وجدت التعب باديا عليه قال انه خلال خمسة أيام عقد أكثر من أربعين ندوة ولقاء تليفزيونيا حيث ان معظم المحطات التليفزيونية بما فيها الأميركية التي أحجمت قبل ذلك عن التعاون معه سعت الى لقائه حتى ان بعضها ترك الحديث عن الوثائق وأخذ يتناول معه بعض الجوانب الشخصية التي يرى أسانغ أنها تسعى لتشويه صورته دون أدلة.
أفضل ما في تجربة أسانغ انه نجح في عمل تحالف إعلامي أثبت من خلاله ان وسيلة إعلامية واحدة مهما كانت قوتها لا يمكن ان تكون المصدر الرئيسي للبشرية في سرعة انتشار المعلومات، فالتليفزيون والصحافة والإنترنت تظل مصدرا جامعا لايصال المعلومات للبشر لا سيما إذا كانت كما هائلا من الوثائق مثلما حدث.
سألت أسانغ: هل ستواصل ما تقوم به؟ قال: نعم ليس أمامي سبيل آخر رغم اني لا أعرف ما الذي سيحدث في المستقبل يجب ان نحمي الناس بتقديم الحقيقة وان نحمي الحقيقة بوضعها بين يدي الناس.
بقي شيء هام لفت نظري في التعامل الأميركي الرسمي مع الوثائق فقد أكد أكثر من مصدر أميركي رسمي صحة الوثائق لكن أحدا لم يطالب بمحاسبة الجناة أو معاقبة القتلة، كل ما قالوه ان هذه الوثائق تهدد جنودهم في ساحات القتال رغم ان العيب الأكبر في نشر هذه الوثائق ــ من وجهة نظري ــ انها طمست الأسماء ومن ثم جعلت مرتكب هذه الجرائم مجهولا أو ممثلا في جيش كامل أو إدارة كاملة.
لقد سبق لوثائق أقل أهمية وخطورة مما نشر ان أقالت حكومات ورمت بمجرمين وراء القضبان، وهذا يدفعنا للتساؤل عن الفارق بين محتويات ما جاء في هذه الوثائق من جرائم حرب، وما قام به ميلسوفيتش وملاديتش وغيرهما من مجرمي الحرب في البلقان، ولماذا يطالبون بمحاكمة الرئيس البشير ولا يحاكمون جورج بوش ولا باراك أوباما والجرائم التي ارتكبتها قوات بوش وقوات أوباما أفظع وأشنع مما قام به الآخرون؟
لقد أجبر الرئيس الأميركي نيكسون على الاستقالة وذهب الى مزبلة التاريخ لأنه تجسس على الحزب الديمقراطي وقام مصدر اميركي داخل البيت الابيض عرف رمزيا باسم «الحنجرة العميقة» بتسريب الشريط إلى الصحفي الاميركي بوب وود ورد الذي دخل التاريخ كصحفي استقصائي، غير ان ما قام به أسانغ أكبر مئات المرات مما قام به وود ورد، ومع ذلك لم يتحرك أحد في الولايات المتحدة أو العالم للمطالبة بمحاكمة المجرمين الاميركان، واكتفت المصادر الرسمية في الأمم المتحدة وغيرها بالمطالبة بالتحقيق في محتويات الوثائق. ونحن نتساءل هل هذا التبلد الاميركي والتواطؤ الدولي لأن الضحايا هم أفغان وعرب؟
ستظل وثائق ويكيليكس مجرد وثائق حتى نرى المجرمين الذين ارتكبوا الفظائع التي وردت بها يحاكمون ويساءلون وراء القضبان وعلى رأسهم جورج بوش.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
وليد حاج

وليد حاج أحد معتقلي جوانتنامو (2) : مقتل أحمد شاه مسعود.. وأحداث 11 سبتمبر ..والهجوم على افغانستان

التالي
وليد حاج

وليد حاج أحد معتقلي جوانتنامو (3) : معركة قنذز وخيانة دوستم ..واقتياد الناجين إلى قلعة جانغي

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share