«مولـد» الانتخـابات المصرية

«المولد» مصطلح يحمل ثقافة مصرية خاصة، حيث لا توجد قرية أو مدينة أو نجع في مصر ليس بها مولد لأحد الصوفية يعقد مرة كل عام، يجتمع فيه عامة الناس، يحتفلون كل على طريقته الخاصة بالمولد، بدءا من الحواة وكافة أنواع الباعة الجائلين والسيرك والسحر والدروشة والطرب الصوفي.. فتجد «كلا يغني على ليلاه» ويعرض ما لديه من بضاعة، فيجتمع الناس للتسلية أو للمصلحة والمنفعة وأغلبهم للطعام والشراب على نفقة المحسنين والمريدين ويبلغ المولد ذروته فيما يسمى بالليلة الكبيرة أي الليلة الأخيرة للمولد، ليكون الأمر في النهاية شكلا من أشكال التجارة الرائجة يربح فيه من يربح ويخسر فيه من يخسر. لكنّ هناك رابحين دائمين في الموالد وخاسرين أيضا، وهكذا الانتخابات في مصر أشبه ما تكون بالمولد وثقافته ومن يتابع تحضيرات الانتخابات البرلمانية المقرر أن ُتجرى في مصر في الثامن والعشرين من نوفمبر الجاري يجد أجواءها أقرب ما تكون بأجواء الموالد.. وأقرب مشهد يصور ذلك ما جاء على صدر الصفحة الأولى لصحيفة «المصري اليوم» المصرية يوم السبت 13 نوفمبر من صورة لوزير الإنتاج الحربي المصري سيد مشغل المرشح عن الحزب الوطني الحاكم في إحدى دوائر حلوان وهو يرقص بالعصا على نغمات الطبل البلدي ويهتف مع مؤيديه في الشوارع «هوبا هوبا.. مشعل تحت القبة»، ولم يفت الوزير أن يوزع على مؤيديه في منطقة «عزبة الوالدة» ليس الفتة التي توزع في الموالد وعليها قطع من اللحم ولكنه وزع اللحوم، المادة الأساسية للفتة، مما جعل الأهالي يرددون شعارات عديدة نصرة للوزير موزع اللحوم والبركات، كان من أهمها «جاء يوم النصر ويوم الكرامة» نعم إنه يوم توزيع اللحوم يمثل يوم النصر والكرامة لهؤلاء البسطاء الذين ينتظرون موالد الانتخابات حتى يحظوا ببعض الهبات، وشعارات أخرى منها «مشعل رمز الانتاج والكرامة في مصر»، هكذا يفعل طبق فتة أو قطعة لحمة بالناس، تحول يوم الحصول عليها إلى يوم النصر والكرامة.
هذا المشهد يعطي صورة للمولد الكبير (مولد الانتخابات المصرية) حيث ترفع الشعارات التي تمجد المرشحين وتضعهم في مصاف قادة الأمم وصناع النصر، وإذا كان هذا تصرف وزير مسؤول في الدولة ورد فعل الناس عليه، فلنا أن نتخيل ماذا يفعل باقي المرشحين لاسيما من العمال والفلاحين أو رجال الأعمال الجدد الذين يربحون الملايين بل عشرات الملايين كل يوم دون أن يبذلوا أي جهد سوى أنهم من أولياء الحزب الوطني الصالحين، ورغم ان كهنة المولد الكبار حرصوا طوال السنوات الماضية على توزيع المرشحين بشكل يضمن حصص كل منهم إلا أن الفوائد الكبيرة التي يجنيها الفائزون في مقاعد مجلس الشعب لاسيما الوكالات التجارية والأراضي التي تدر المليارات على الممنوحين، جعلت الصراع يشتد بشكل كبير للفوز ليس بالمقعد وإنما بحق الترشح لأن نسبة الذين يرسبون من الحزب الوطني قليلة مقارنة بالآخرين، مما جعل قادة الحزب الحاكم يقعون في مأزق الاقبال الكبير من الأولياء من اجل الترشح والاختيار فقاموا باستبعاد كثيرين منهم لأسباب تتعلق بموازين ومعايير الكهنة الكبار فاستعدوهم ضد الحزب اما الذين لم يفلحوا في فرض احدهم فقد رشحوا اكثر من شخص ضد بعضهم في الدائرة الواحدة وكل ينفق ويوزع اللحوم ويمارس الرقص بالعصا سواء بالمزمار البلدي او حتى على الساكسافون ولتكن ساحة المولد هي ساحة التصفية.
في جانب آخر من المولد هناك عمليات تتم وراء الكواليس لمبالغ تدفع سواء لشراء الذمم او لتنازل مرشح لآخر او لدعم مرشح ضد آخر أو لتفتيت الاصوات. اما اعضاء الوطني الذي تم استبعادهم فقد اعلن كثيرون منهم علنا دعمهم لمرشحي المعارضة او الإخوان او رشحوا انفسهم مستقلين ضد مرشحي الحزب الحاكم وفي النهاية يكون الحزب الحاكم هو الفائز دائما ايا كان الفائز من المرشحين سواء كان مستبعدا او مستقلا او متنافسا مع مرشح وطني آخر.. فالحزب في النهاية هو الذي يعلن عن الفائزين، وفي أحد أركانه المولد هناك مرشحون يقفون امام ساحات المحاكم واقسام الشرطة يقدمون الطعون والشكاوى في آخرين او حتى ضد لجنة الانتخابات التي رفضت طلبات ترشيح لمرشحين يخشى فوزهم ضد مرشحي الحزب الحاكم او لتصفية حسابات معينة بينما يفرض القضاء الاداري على وزارة الداخلية ضرورة قبول اوراقهم لكن الداخلية عادة لا تلتزم الا بما يناسبها من احكام القضاء.
هناك محترفون لمولد الانتخابات ينتظرون هناك المولد كلما يعقد.. عملهم هو علم الدعاية الانتخابية وتنظيم الحملات وترتيب «الهتيفة» اي الذين يمشون وراء المرشح عبر استئجارهم ليهتفوا للنائب وحياته وانجازاته وسيرته العطرة ويمشوا خلفه كداعمين له ويكفي ان تدفع عشرة جنيهات اواكثر بقليل لكل شخص لتضمن ان يحتشد وراءك المئات معظمهم لا يعرف من أنت ولا يؤمن بأفكارك او مبادئك، ومن الممكن ان يكون المرشح تاجر مخدرات او ناهبا للمال العام أو أموال هؤلاء الذين يهتفون بحياته وأمانته وانجازاته، ويمكن ان ينهي «الهتيف» الجولة معك ليذهب ويهتف للمرشح الآخر طالما انه سيدفع الجنيهات العشرة فهذه ثقافة الموالد، فالجنيه هنا هو سيد الموقف، والبطالة التي يعانيها الناس كفيلة بأن تجد من يفعل لك ما تريد لا سيما ان المهمة ليست عسيرة، وعلى قدر طبقة صوت «الهتيف» على قدر ما يمنح لكن الأمر يدور في اطار محدود.
اذكر انني في الانتخابات البرلمانية الماضية زرت احد المرشحين البارزين للحزب الحاكم وكنا في شهر رمضان فوجدت ساحة بيته في قريته تغص بالمئات من الشباب والكبار الذين جاؤوا من القرى المجاورة ليهتفوا له ولحياته وجهاده والانتصارات التي حققها لهم والأمجاد التي صنعها لأمته وللشعب المصري، وأصر المرشح أن أخرج لأشاهد مؤيديه، في الساحة وجدت الجميع منكبين على وجبة الافطار التي قدمها لهم فالتفت اليّ وقال لي بفخر: «كل مواطن حمامة محشية وربع فرخة» وكل يوم عندي مواطنون من أماكن مختلفة حتى يوم الانتخابات كل يوم خمسمائة شخص.
هذه الثقافة، ثقافة «مولد الانتخابات» لا يعرفها أمثال الدكتور محمد البرادعي أو دعاة التغيير في مصر الذين ينادون بالديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة والعدل والاستثمار في الانسان وزيادة مساحة الوعي.
وكل مولد وأنتم طيبون.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
وليد حاج

وليد حاج ج5 : الدور الأمريكي فى مذبحة جانغي

التالي
وليد حاج

وليد حاج ج6 : مشاهد القتل داخل قلعة جانغي..والفصل الأخير للمعركة

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share