صناعة الأزمات في مصر

صناعة الأزمات حرفة، تماما مثل القدرة على حلها، وكما أن هناك من يجيد صناعة الأزمات ويعرف حلولها تماما مثل الذي يصنع السم ويصنع له الترياق، فإن هناك من يجيد صناعة الأزمات لكنه لا يجيد كيف يعالجها أو يأتي بالحلول لها، وهذا ما يحدث في مصر منذ استولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة في مصر في أعقاب قيام الشعب المصري بخلع الرئيس المصري حسني مبارك بعد ثورته في الخامس والعشرين من يناير الماضي، غير أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة احترف منذ استيلائه على السلطة صناعة الأزمات دون أن يقدم أي حلول لها، فهو يصنع الأزمة تلو الأزمة ويترك تفاعلاتها تصل إلى حد الانفجار ثم ينسحب فجأة أو يترك الأمور تسير إلى المجهول مصدرا في مواجهة الشعب حكومة هزيلة ضعيفة مثل خيال المآتة كان الشعب يعتقد أنها ستكون ممثلة له لكنها أصبحت ألعوبة في يد المجلس العسكري يوجهها كيف يشاء ويلصق بها كل الأزمات ويتركها تواجه الشعب بأدوات الغباء السياسي والجهل الإداري المنقطع النظير، ولعل صناعة أزمة وثيقة المبادئ فوق الدستورية أو ما اصطلح على تسميته بوثيقة علي السلمي نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس حزب الوفد خير دليل على حالة التخبط واحتراف صناعة الأزمات التى ينتهجها المجلس الأعلى في إدارته لدفة الحكم في البلاد.
فالوثيقة التى شارك في صناعتها بعض رجال القانون الذين يبيعون ضمائرهم مقابل دراهم معدودة وهم موجودون في كل عصر وزمان وحول كل حاكم وسلطان، صاغوا وثيقة تجعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة فوق كل القوانين وفوق سيادة الشعب وحكم الشعب وفوق كل السلطات ماليا وإداريا وكأنه دولة فوق الدولة، وهذا نظام لو تم إقراره أو تطبيقه سيكون أسوأ مما حكمت به مصر طوال الستين عاما الماضية فضلا عن أن الشعب لم يقم بثورته حتى يستبدل نظاما مستبدا بنظام أشد منه سوءا واستبدادا وحتى يضع طبقة أشبه ما تكون بطبقة المماليك في التاريخ المصري فوق الشعب وهم في الأصل خدم له، وقد سعت القوى السياسية حتى تبطل هذه الوثيقة من خلال الحوارات التى قامت بينها وبين أركان النظام لكن ما حدث لم يكن سوى عملية ترقيع تهدف في النهاية إلى تمرير الوثيقة حتى وصل الأمر بشكل مبطن إلى مساومة القوى السياسية على أنه إما الوثيقة وإما الانتخابات وقد سألت أكثر من مسؤول سياسي عن فحوى هذا التهديد فقال لي معظمهم إجابة واحدة، «ما هي قيمة الانتخابات إذا أتت بمجلس للشعب ورئيس لا حكم له ولاسلطان على القوات المسلحة التى هي خادمة للشعب وليست سيدة عليه كما يريد العسكر من خلال الوثيقة ؟» وكانت النتيجة لتعنت العسكر هي المليونية التى تمت في ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي 18 نوفمبر حيث احتشد مليونان حسب المنظمين في ميدان التحرير وميادين أخرى في الاسكندرية والمنصورة والسويس ومدن أخرى، ولعل حسابات الذين يحكمون مصر كانت مختلفة فاعتقدوا أن الشعب قد مل من المليونيات وأنه يستعد للانتخابات وأنه من الصعب أن يحتشد الملايين بنفس الروح الثورية التى كانوا يحتشدون بها خلال ثورة 25 يناير لكن ما حدث كان عكس ذلك وأكد الشعب أنه لايزال حريصا على حماية ثورته وأن الروح الثورية لم تغب عن الشعب، لكن النظام أثبت في تعامله مع الذين قرروا الاعتصام أنه نفسه نظام مبارك بعقليته وأسلوبه وطريقة تعامله مع المعتصمين بل إن النظام استخدم نفس آليات القمع التي استخدمها ضد الشعب خلال ثورته في يناير الماضي بدءا من القنابل المسيلة للدموع وحتى الخرطوش بل والقناصة كما ذكرت تقارير كثيرة أن من قتلوا في الأسكندرية صباح الأحد قتلوا برصاص قناصة تمركزوا أعلى مبنى مديرية أمن الأسكندرية التى حاصرها الشعب احتجاجا على عمليات القمع التى تتم في ميدان التحرير، ولعل وزير الداخلية المغيب سيخرج على الناس لينفي كما نفى من قبل وجود قناصة بل ربما هذه المرة ينفي أن هناك قوات للأمن المركزي أو قنابل مسيلة للدموع أو رصاص خرطوش او أيا مما قامت الكاميرات بتصويره وبثه على شاشات التلفزة طوال فترات المواجهات ومنها صور تبين أن رجال الأمن هم الذين كانوا يقومون بحرق الممتلكات العامة.
لقد قام الأمن المركزي بالهجوم على الميدان وفض المعتصمين منه إلى الشوارع الجانبية، ثم الانسحاب منه تحت وطأة الجماهير التي توافدت على الميدان ثم ذهبت لحصار وزارة الداخلية سيئة الذكر في لاظوغلي ثم قام الأمن بالهجوم مرة أخرى على المحتجين وردهم إلى ميدان التحرير نفس هذه المشاهد هي مشاهد 28 يناير الماضي وما بعده، إنها القدرة الهائلة من أناس لا يعرفون فن الحكم ولا سياسة الناس على صناعة الأزمات والاستهتار بقيمة الشعوب ودمائها وحقها في صناعة حياتها ومستقبلها، فلا يزال الرجال الذين صنعهم حسني مبارك يديرون مصر بنفس العقلية والقدرات الهائلة على صناعة الأزمات مع الفشل التام في القدرة على تقديم أية حلول لأنهم باختصار غير مؤهلين إلا لشيء واحد هو صناعة الأزمات وما يردده كثير من السياسيين في جلساتهم الخاصة بأن هؤلاء الذين يحكمون إذا أجبروا على ترك السلطة لمن يختاره الشعب فسوف يتركونها يبابا حتى يجد من يأتي نفسه عاجزا عن القيام بشيء، إن ما يحدث خطير للغاية لأنها أكبر محاولة لإفشال الثورة لكن الشعب المصري الذي ضحى بدمائه مازال قادرا على حماية ثورته ولعل الدماء التي تسيل في مدن مصر تؤكد أن الشعب لن يتراجع حتى يحقق النجاح الكامل لثورته.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

أسامة ياسين (3) : مشاهد وتفاصيل .. جمعة الغضب 28 يناير .. وعمليات الدهس والقتل

التالي
أسامه ياسين

أسامة ياسين (4) : خطاب مبارك ومساندة الجيش للشرطة .. والاختراقات الأمنية للميدان

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share