التكالب على الوزارة!

الوظيفة العامة فى عرف الدول الديمقراطية والأنظمة العادلة هى مغرم لا مغنم، وموقع لخدمة الناس وبذل الجهد لهم والتضحية من أجلهم، ولذلك يسمى الموظف المدنى فى الغرب سواء كان موظفا عاديا أو حتى رئيس حكومة «خادما مدنيا». أما فى الأنظمة الفاسدة المستبدة فالوظيفة هى موقع للسرقة والتربح والوجاهة والتسيد على الناس، واستخدام الناس عبيدا وخدما ومصدرا للابتزاز والغنى الفاحش، وهذا ما كانت مصر عليه خلال العقود الثلاثة الماضية على أقل تقدير، ومن يرد أن يتحقق ما عليه إلا أن يتجول فى المدن الجديدة ليرى القصور التى بناها موظفون مدنيون رواتبهم فى أغلبها محدودة، ويرى كيف استخدم هؤلاء نفوذهم ووظيفتهم للتربح الحرام حتى إن أحد مرشحى الرئاسة بنى قصره كاملا فى التجمع الخامس دون أن يدفع مليما واحدا للمقاول، حيث منح المقاول الذى بنى له القصر عقودا بالأمر المباشر من وزارته فى مشروعات كبيرة تربح المقاول مليارات من ورائها، وهكذا كان يفعل هؤلاء، كل ما ملكوه إما من أموال الدولة وإما تربحا وابتزازا من الناس ويمنحونهم فى مقابله مشروعات وأراضى من أملاك الدولة التى هى فى نهاية المطاف أملاك الشعب. وقد روى لى أحد تجار مفروشات الحدائق أنه فرش حدائق قصر أحد هؤلاء، ثم فوجئ بمماطلة فى الدفع، فزاره مدير مكتب المسئول وقال له: «الباشا مش هيدفع، لكن لو عايز قطعة أرض أو تسهيلات فى أى مشروع مقابل فرش البيت فاعتبرها لديك من الآن»! وأعتقد أن كل مقاول فى مصر وكل صاحب شركة تعمل فى التوريدات أو غيرها حتى على مستوى بائعى الخضراوات والفاكهة والناس البسطاء لديهم قصص لا نهاية لها حول موظفى الدولة من الوزير إلى الغفير فى عهد مبارك، كيف كانوا يستغلون وظيفتهم للتربح والحصول على المال الحرام من الشعب. وأعتقد أن الوقت قد حان لهؤلاء حتى يحصلوا على حقوقهم ويفضحوا هؤلاء اللصوص لاسيما إذا كان لديهم من الأوراق والمستندات ما يثبت حقوقهم. وأعرف أحد أصدقائى هدد أحد هؤلاء بمبلغ كبير كان لديه مؤخرا فإذا بالمسئول يركض وراءه ليطلب منه دفع المبلغ المستحق مقابل السكوت عنه، وفى اليوم التالى مباشرة حصل صديقى على المبلغ كاملا بعد خمس سنوات من المماطلة. لقد قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير من أجل أمور كثيرة من أهمها أن تتحول الوظيفة المدنية فى الدولة بدءا من رئيس الجمهورية وحتى أصغر غفير فى أبعد نجح من نجوع مصر إلى «الخادم المدنى» للشعب، وأن يشعر المواطن البسيط أن الرئيس والوزير والموظف هم خدم لديه وظيفتهم أن يقضوا حاجات الناس مقابل ما يتقاضونه من رواتب من المفترض أن يتم تعديلها بحيث تغنى هؤلاء عن أن يمدوا أيديهم أو يطلبوا الرشوة من الناس. وإذا كان الناس كانوا يدفعون رشاوى لا نهاية لها حتى يحصلوا على حقوقهم فلتتحول قيمة هذه الرشاوى إلى رسوم مقابل خدمات جيدة وارتقاء بمستوى الموظفين، وتحقيق عادل لمطالب الناس ومصالحهم. هذه أمور عامة فى المشهد المصرى هذه الأيام، لكن الأمر الخاص هو ما يتعلق بتشكيلة الحكومة الجديدة، التى هى أول حكومة تأتى بإرادة شعبية وتوافق بين القوى الوطنية المصرية وبعد نجاح الشعب المصرى فى اختيار أول رئيس يحكمه بإرادته فى تاريخه، حيث تمتلئ بورصة الشائعات بالأسماء التى بدأ كثير منها يملى شروطه من أجل تولى الوزارة أو المسئولية دون أن يثبت أن أحدا اتصل عليه أو تحدث معه وإنما هى تخمينات الصحف، وتسريبات الأجهزة والصحفيين. لكن المثير فى الأمر هو التكالب على الوظيفة رغم تغيير طبيعتها، فقد كانت للوجاهة والسرقة والتربح من قبل والآن أصبحت مسئولية وأمانة وخدمة للناس تحت طائلة المحاسبة والعقاب، وحينما تتحول الوظائف إلى مغنم لا مغرم فمن المفترض أن يتعفف الناس عنها وأن يتراجعوا لمن يتصف بالأمانة والقوة ليتولى المسئولية، أما التكالب على المناصب الوزارية والتصارع عليها بهذه الطريقة فإنه يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة.

Total
0
Shares
السابق

التسليم المنقوص للسلطة

التالي

حوار مع داود أوغلو (1)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share