إنسان النظام السياسي المصري

حينما سألت رئيسة فلندة فى حوار أجريته معها فى شهر أغسطس من العام الماضي 2006 عن سر تفوق بلادها وتصدرها للمرتبة الأولي على مستوي العالم فى مجالات كثيرة ، قالت : لدينا شيء بسيط نستثمر فيه فيعطينا هذه النتائج المبهرة التى جعلت بلدنا الصغير يتصدر المرتبة الأولي في مجالات كثيرة علي مستوي العالم : إنه الأنسان ، نستثمر فى الأنسان الفلندي فنحصل علي هذه النتائج ، تذكرت هذه العبارة وأنا أتابع بأسي ما آل إليه أمر الأنسان المصري ففي تحقيق صحفي كتبته الزميلات هبة حسين وشيماء البرديني ودارين فرغلي ونشرته صحيفة ” المصري اليوم ” فى عددها الصادر فى 19 فبراير الماضي حول ” الوجه القبيح لبزينس ” الموديلز ” فى البرامج التليفزيونية ” وهو واحد من عشرات المقالات والتحقيقات والأخبار التى نشرت تعليقا علي برنامج ” هالة شو ” المفبرك حول ” فتيات الليل ” كشف هذا التحقيق عما آل إليه أمر الآلاف المؤلفة من الشباب المصري خريجي الجامعات الذين يبحثون عن عمل والذين وصل بهم الحال إلي قبول القيام بأي شيء يطلب منهم فى تلك البرامج التى أصحبت تملأ شاشات الفضائيات مقابل مبالغ زهيدة لاتزيد فى كثير من الأحيان عما يعادل عشرة دولارات ، والأمر الأدهي هو أن أمهات كثير من الفتيات هن الللائي يقمن بالألحاح على المكاتب التى تتولي أعمال النخاسة هذه حتى تقوم بناتهن بأداء الرقصات فى هذه البرامج ” ، لقد صدمني كلام المتعهدين الذين يوردون الفتيات لهذه البرامج حينما وجدتهم يتحدثون تماما مثل تجار سوق النخاسة الذين يظهرون فى الأفلام أو الذين قرأنا عنهم فى الكتب القديمة واسمحوا لي فقط أن أضع هذا العبارة التى تبين جحم الكارثة التى يعيشها الأنسان المصري : ” ويؤكد أحمد بهاء منفذ موديلز ومساعد مدير إنتاج في بعض البرامج أن أجر الفتاة في تلك البرامج يتم تحديده طبقاً لنسبة جمالها ونوعية الملابس التي ترتديها فإذا كانت الفتاة «مش حلوة ولابسة نص كم» فلن يزيد أجرها علي ٥٠ جنيهاً، ولو كانت متوسطة الجمال وترتدي «بادي كت» تأخذ ٨٠ جنيهاً في الحلقة، أما إذا كانت جميلة وترتدي «بادي حمالات» فلن يقل أجرها عن ١٠٠ جنيه ” .
هذا التحقيق الصحفي كشف مع غيره عن حالة الضياع الكبري بين شباب مصر الذين من المفترض أنهم قضوا فى الدراسة ما يزيد علي ستة عشر عاما حتى يكونوا لبنات فى بناء وطنهم مثلما يشكل أمثالهم في فلندة بل فى الهند وكثير من دول العالم حتى المتخلفة ، لكنهم في مصر فى مستعدون للقيام بأي شيء من أجل تأمين قوت اليوم ، والمشكلة ليست فى برنامج ” هالة شو ” وتداعياته ، وإنما فى سلسلة التداعيات التى تعيشها مصر بشكل عام و والتى أصبحت تهز أركانها كل يوم ، فخلال العام الماضي فقط تعرض المجتمع المصري لهزات عنيفة تثبت أن تدمير الأنسان والمجتمع المصري ومؤسسات الدولة ـ سواء كان الأمر مقصودا من النظام السياسي أم هو إفراز طبيعي لغيبوبته والاداء الفاشل للقائمين عليه ـ أمر قائم على قدم وساق ، فحادثة القطار الكبري في الصيف الماضي أثبتت حجم الأهمال الكبير فى مرفق السكك الحديد أهم المرافق العامة فى مصر حيث خرج وزير المواصلات وكشف عن أكثر من الف حادثة قطار وقعت فى العام الماضي وأن الحادث الفاجعة كان أكبرها أو أكثرها اهتماما من وسائل الأعلام ، بعدها دخل المصريون فى متاهة ” التوربيني ” وكشفت هذه الحادثة عن مأساة الملايين من أطفال الشوارع وعالمهم الغامض المليء بالجريمة والحطام الأنساني وكأنهم دولة سفلية داخل الدولة لها عالمها وقوانينها ، ثم ظهر ” سفاح المعادي ” ليضفي علي المشهد المصري مزيدا من الأثارة ، ويغرق الناس فى دوامة من التيه التى ربما تصرفهم عن المآسي الحقيقية التى يعيشون فيها والتى تشهد انهيارا فى مجالات التعليم والصحة والنقل والخدمات العامة وانتشار الفساد وتفشي الفوضي فى كافة جوانب الحياة ، حتى أنك أصبحت تري الناس يسيرون فى الشوارع وكأنهم سكاري وماهم بسكاري وكلما سألت أحدا من أهل الثقافة و الفكر والمشورة والرأي من علماء مصر ومفكريها عن الواقع والمستقبل تجد إجابة شبه واحدة من الجميع ” مصر تسير إلي المجهول والمستقبل فى علم الله “.
إن المأساة في كل ما يحدث أن مصر ليست للمصريين وحدهم ،وإنما كما يقول الكاتب التونسي الصافي سعيد فى كتابه خريف العرب ” تبدو الأرض العربية الآن بلا قلب ، لأن مصر تمثل قلب الوطن العربي النابض ، وهذا القلب الآن ” قلبا عليلا ” . لكن الأنسان المصري ليس كما يسعي النظام السياسي لتقزيمه بل هو دائما إنسان مبدع ، لقد اعتمدت الأمبراطورية العثمانية بكل هيمنتها وسلطانها على المصريين المهرة فى معظم الفنون ، وهناك الآن أكثر من مليون عالم مصري ـ وفق الأحصاءات الرسمية ـ وأربعة ملايين مهني محترف هاجروا ليشاركوا فى بناء الدنيا فى كافة مجالات العلوم بعدما أصبح النظام السياسي يحترف الهدم وطرد الكفاءات وحول مصر إلي ” مقبرة للشرفاء ” وهؤلاء يشرفون بلدهم ويرفعون الأنسان المصري وقيمته فى كل مكان ، كما أنهم جميعا ليسوا من إفراز هذا النظام وإنما هم من ضحاياه وقد أفرزت هؤلاء وغيرهم من الشرفاء داخل الوطن العراقة والأصالة المصرية التى هي باقية فى عروق هذا الشعب ودمائه ، أما الفقاعات التى أفرزها النظام السياسي فإن مزبلة التاريخ سوف تسعها كما وسعت من قبلها إلي أن يأتي إلي حكم مصر حاكم مثل رئيسة فلندة يستثمر فى الأنسان المصري حتى يعود بمصر كما كانت.. قلب الأرض العربية النابض .

Total
0
Shares
السابق

الاحتلال الإثيوبي للصومال : حرب من أجل النفط

التالي

الحرب على الإرهاب وانهيار حقوق الأنسان

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share