سر الحرب علي استقلال القضاء

لاشيء يخيف الحكام المستبدين ، و المتجاوزين للقانون أكثر من قضاء وقضاة أحرار ونزيهين ، ولعل هذا ما جعل الرئيس الباكستاني بروفيز مشرف يدخل في مواجهة مع الشعب كله حينما وجد نفسه عاجزا عن إقصاء رئيس المحكمة الدستورية القاضي افتخار تشودري الذي تحول إلي رمز لاستقلال ونزاهة القضاء فى باكستان ووصل الأمر بالجنرال مشرف في النهاية أن يعلن الأحكام العرفية فى البلاد بعدما علم أن المحكمة الدستورية العليا فى البلاد تتجه نحو إصدار حكم يقضي بعدم دستورية انتخابه رئيسا للبلاد في ظل استمراره كقائد عام للجيش ، حيث ينص الدستور الباكستاني صراحة علي منع أي موظف مدني أو عسكري من الترشح لمنصب سياسي أو برلماني قبل مرور سنتين علي تقاعده أو استقالته من منصبه ، ومن ثم فإن إعلان مشرف لحالة الطواريء وإعادة إقالة رئيس المحكمة الدستورية واستبداله بآخر لن تبرر له اغتصابه للسلطة في باكستان ، شأنه في ذلك شأن كثير من العسكر الذين يغتصبون السلطة فى بلادهم ، و مشكلة مشرف مع القضاة الشرفاء هي مشكلة غيره من الحكام المستبدين أو الذين يكرهون الحقيقة أو يعتقدون أنهم يمكن أن يفلتوا من العدالة ، والقضاة الأحرار موجودون فى كل مكان ويضربون الأمثلة دائما علي أن ضمير القاضي بعيدا عن انتمائه الحزبي أو السياسي يظل شمعة تضيء فى جنبات الدنيا بعيدا عن تأثير الحكام أو مصالحهم مع الآخرين ، فالمغاربة علي سبيل المثال لم يكادوا يفيقوا من قرار القاضي الفرنسي رامييل يتوقيف خمسة بتهمة التورط فى مقتل المعارض المغربي المهدي بن بركة فى باريس عام 1965 ، حتى قام القاضي الأسباني بالثازار غارثون بقبول الدعوة التى أقامتها جمعيات صحراوية ضد مسئولين أمنيين مغاربة تتهمهم فيها بالمسئولية عن الانتهاكات التى وقعت فى المناطق الصحراوية خلال سنوات السبعينيات والثمانييات من القرن الماضي وأصدر القاضي قراره بملاحقة واحد وثلاثين من رجال الأمن المغاربة علي رأسهم قائد الدرك الملكي الجنرال بن سليمان الذي سبق للقاضي الفرنسي وأن أصدر قرارا بالقبض عليه ، وليست هذه هي المرة الأولي التى يصدر فيها هذا القاضي الأسباني قرارا بملاحقة مسئولين مغاربة فالمرة الأولي كانت في العام 1998 حينما أصدر قرارا بملاحقة ملك المغرب الحسن الثاني في شأن قضية أثيرت آنذاك وادعي أطرافها أن ملك المغرب مسئول عن انتهاكات وعمليات ترحيل جماعي من الصحراء وقعت بين عامي 1975 و1990 ، وكان الطرف المدعي فى هذه القضية المحامي الأسباني فرانسيسكو فيرنانديز غوبيرنا الذي طالب بإصدار مذكرة دولية للبحث عن ملك المغرب واعتقاله إلا أن حصانة الملك كرئيس دولة حالت دون ذلك ، بعد ذلك ظل غارثون يطارد الديكتاتور التشيلي بينوشيه ويسعي لمحاكمته بتهمة التعذيب وانتهاك حقوق الأنسان في بلاده خلا ل فترة حكمه وبقي يطارده حتى مات بينوشيه رغم أن بريطانيا رفضت تسليمه ، كما طالب غارثون بمحاكمة الرئيس الأمريكي جورج بوش بسبب الحرب التى يشنها علي العراق وقال غاراثون إن مقتل 650 ألف شخص يكفي لبدء التحقيق والتحريات دون مزيد من التأخير ، ورغم أن البعض يتهم غارثون بالبحث عن الشهرة من وراء هذه الملاحقات إلا أن آخرين يقولون بأن نزعة غارثون اليسارية لها دور في ملاحقه للحكام المستبدين والذين يخرقون القانون من أعوانهم يساعده علي ذلك قوانين بلاده التى تسمح بمحاكمتهم ، وقد عرف بعض قضاة التحقيق فى أوروبا بالجرأة التى أحرجوا بها بلادهم مع الولايات المتحدة تحديدا مثل المدعي العام الأيطالي أرماندو سباتارو الذي أصدر قرارا في في يونيو من العام 2006 بملاحقة ومحاكمة عملاء السي آي إيه الذين اختطفوا الأمام المصري حسن مصطفي نصر وسلموه للسلطات المصرية حيث عذب هناك لانتزع اعترافات منه علي أشياء لم يقم بها ، في نفس الوقت كان المدعي العام الألماني قد طالب بمحاكمة ثلاثة عشر من عملاء السي آي إيه بتهمة خطف مواطن ألماني من أصل لبناني هو خالد المصري وتعذيبة في أفغانستان ، هذه الأمثلة من باكستان وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا ، تمثل صورة مضيئة للقضاء والقضاة حينما يكونون أحرارا ، وتشير إلي الحرب التى تشنها الأنظمة المستبدة علي القضاء والقضاة واستقلالهم ومساعيهم الدائمة لوضع القضاة الشرفاء تحت الضغط الدائم بينما إسباغ النعم والرشاوي علي القضاة الطيعيين فى أيدي الأنظمة ستكون حربا فاشلة ، إن هناك تاريخا لا يرحم ومزبلة التاريخ مليئة بالقضاة الذين كانوا أحذية في أرجل الحكام بينما لوحات الشرف تزين فى كتب التاريخ أسماء القضاة الذين أصروا أن يكون ضميرهم حيا وأن يعبروا عن مشاعر أمتهم فيما تولوه من أمانة ، إن قاض حر أقوي من أي حكومة بل من أي رئيس دولة لذا مع كل ما يملكه حاكم باكستان العسكري فإنه يخاف من قاض حر ، وكل ما يملكه الطواغيت والحكام المستبدون من قوة فإن القضاة الأحرار يظلون يؤرقونهم وهذا سر الحرب علي استقلال القضاء .

Total
0
Shares
السابق

فى جحيم  لبنان ومعركة بنت جبيل

التالي

خطورة خصخصة الأمن فى العالم

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share