سكك حديد مصر .. رحلات للآخرة

رغم حبي لركوب القطارات لاسيما فى الرحلات الطويلة حيث أقضي الوقت فى القراءة والكتابة والتأمل ، إلا أني لم أركب قطارات سكك حديد مصر منذ أكثر من عشرين عاما والسبب يعود بالدرجة الأولي إلي الوضع المذري الذي وصلت ‘إليه المواصلات العامة فى مصر بكل أشكالها ، والتى لا تشجع أحدا على الأطلاق علي استخدامها سوي المضطر ، غير أن الحوادث المتكررة وشبه اليومية لقطارات السكك الحديدية فى مصر دفعتني إلي أن أفكر فى الذهاب إلي الإسكندرية لموعد مع طبيب هناك عبر تلك القطارات ، وقلت ليكن الأمر محاولة للوقوف على ما آل إليه أمر سكك حديد مصر من خلال شاهد عيان وليس من خلال ما أقرأ وما أشاهد ، لم تثنيني تحذيرات الزملاء ولا عنوان صحيفة ” المصري اليوم ” ” السكة الحديد تواصل رحلاتها إلي الآخرة ” عن المغامرة ، فأرسلت من يستخرج لي تذكرة للسفر إلي الإسكندرية فى قطار التاسعة صباحا علي أن تكون العودة فى قطار الثانية ظهرا ، حيث أن موعدي هناك كان فى الحادية عشرة والنصف ، ذهبت يوم السفر مبكرا إلي محطة مصر التى كانت روعة معمارية تذكرني بمحطة ” كينجز كروس ” للقطارات في لندن ، فقد بنيتا فى وقت متقارب ، بقيت ” كنجز كروس ” بجمالها وبهائتها وتاريخها وعراقتها لكن محطة سكك حديد مصر أصبحت محاطة بالعشوائيات من خارجها والأهمال والقذارة من داخلها ، أبلغني موظف الأستعلامات أن تذكرتي قطعت على قطار التاسعة وعشر دقائق وليس التاسعة ، وأن قطار التاسعة وعشر دقائق يأتي من الصعيد ويذهب مباشرة إلي الأسكندرية لكنه لن يصل إلي محطة مصر قبل الثانية عشرة والنصف ظهرا حيث أنه لم يغادر مدينة مغاغة حتى الآن ، وعلي أن أحاول الركوب بتذكرتي فى قطار التاسعة إن قبل مدير القطار ذلك وإن قبل فقد أذهب واقفا إلي الأسكندرية ، هذه المعلومة زادت شغفي لفهم ما يحدث ، فذهبت لرصيف 3 حيث يغادر قطار التاسعة ، فراعني ما رأيت ! قاطرات قديمة صدئة يعلوها الزيوت والسواد والتراب لا أستطع التعرف علي لونها من كثرة الأوساخ التى عليها تجر معظم القطارات فى المحطة ، أما ديزل التاسعة الذي وصفه المذيع عبر ميكروفون المحطة بأنه ” ديزل الأسكندرية الفاخر المكيف ” والذي يبدوا من الأعلان كأنه مركبة فضاء ، لم يكن سوي قطار ملون لكنه الصدأ والتآكل ينال الكثير من عرباته من الخارج ومهتريء من الداخل ، سألت أحد عمال القطار عن تذكرتي قال يمكننا قبولك ولكن بعد موافقة مدير القطار قلت له : أين مدير ا لقطار ؟ قال : يقف هناك على الرصيف ، ذهبت إليه فوجدته محاطا بعدد من الناس يحملون له أوراق وتوصيات من فلان بك وعلان باشا حتى يركبوا القطار دون تذكرة مجانا إلي الأسكندرية ، وهو كان يطالع الأوراق والتوصيات ، ثم يوزع أصحابها على عربات القطار ، قلت له ليس معي توصية ولكن معي تذكرة لقطار التاسعة وعشر دقائق هل يمكن أن أركب بها قطار التاسعة ، نظر فى تذكرتي وقال : ” يمكنك الركوب لكني لا أضمن لك مقعدا أنت وحظك ” ، وجدت مقعدا خاليا فجلست عليه ,ثم بدأت فى قراءة الصحف التى كانت بحوزتي ، فهالني ما قرأت عن سكك حديد مصر وما آال إليه أمرها وهي ثاني سكك حديد أنشأت فى العالم بعد بريطانيا ، وكان من أهم ما نشر أن حادث قطار قليوب الذي وقع فى الثالث والعشرين من أغسطس الماضي لم يكن سوي القشة التى قصمت ظهر البعير وكشف عن الحالة المهترئة التى وصلت إليها هيئة سكك حديد مصر ، فالخبراء أكدوا علي أن 66% من قطارات السكة الحديد انتهي عمرها الأفتراضي ، كما أن معظم عربات قطارات البضاعة لاتوجد فيها فرامل لأنها سرقت ، تماما مثل الكابلات الهوائية ، كما أن الصيانة لا تتم فى موعدها المعتاد لمعظم الجرارات بل لا تتم لكثير منها ، وهذا ما دفع رئيس هيئة السكك الحديدية الجديد أشرف سلامة أن يتوقع المزيد فى حوادث القطارات فى تصريحات نشرتها ” المصري اليوم ” فى 6 سبتمبر الماضي وبعد تصريحه لم يمر يوم دون حوادث قطارات بعضها كان مرعبا ، كما أن عشرات من سائقي القطارات ارتدوا أكفانهم وقرروا التظاهر أمام مجلس الشعب ، أما الشعب نفسه فقد أكد مشاركون فى ندوة عقدتها لجنة الحريات فى نقابة الصحفيين فى 2 سبتمبر الماضي أن ” الحكومة تعتبر المواطن المصري مجرد رقم ليس له وجود حقيقي فهي لا تحترم كرامته ولاتسعي للحفاظ علي أمنه وسلامته ” ، لكن العجيب أنه رغم كل ذلك فإن قطارات السكة الحديد فى مصر لازالت وستظل مزدحمة رغم أن كثيرا منها أصبح بالفعل ” رحلات للآخرة ” ، نظرت فى ساعتي فوجدتها قد تجاوزت التاسعة والنصف ولم يتحرك القطار رغم أن موعد تحركه فى التاسعة تماما ، سألت مدير القطار عن سبب تأخره وماهو الموعد المقرر لتحركه ؟ قال ” لا أدري سببت تأخره ولا متي سيتحرك لأن القاطرة التى ستقوده إلي الأسكندرية لم تأت بعد ” اتصلت علي طبيبي فى الأسكندرية وأبلغته بالموقف وأجلت موعدي وألغيت سفري ، وراعني بعد ذلك جملة سمعتها من المستشار طارق البشري أبرز مؤرخي العصر ونائب رئيس مجلس الدولة السابق حينما قال لي : لا تستغرب أن يصبح الناس يوما فى مصر فيجدون الحياة قد توقفت فليست سكك حديد مصر وحدها المهترئة وكلن النظام كله أصبح مهترئا فى مصر .

Total
0
Shares
السابق

من يشعل فتيل الحرب الأهلية فى لبنان ؟

التالي

مقهي العلوم في بيروت .. تجربة تستحق التعميم

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share