محاكمة أمريكا وسي آي إيه

جاء قرار القاضي الأيطالي في مدينة ميلانو يوم الجمعة 16 فبراير الماضي بإحالة الرئيس السابق لجهاز الأستخبارات العسكرية الأيطالي نيكولو بلاري و26 عميلا تابعين لوكالة الأستخبارات المركزية الأمريكية ” سي آي إيه ” بتهمة خطف الأمام المصري السابق لمسجد ميلانو حسن مصطفي أسامة نصر ـ  المشهور باسم أبو عمر المصري  ـ   من أحد شوارع ميلانو في 17 فبراير 2003 ليشكل ضربة قاصمة لجهاز السي آي إيه ،  أكبر جهاز استخباراتي لأكبر دولة فى العالم ، وقد جاء القرار في أعقاب قرار أصدرته سلطات الأدعاء الألمانية فى 31 يناير الماضي باعتقال 13 من عملاء السي آي إيه لهم علاقة باختطاف المواطن الألماني من أصل لبناني خالد المصري فى العام 2004 ، حيث اعتقل المصري فى مقدونيا وتم نقله إلي سجن سري فى أفغانستان ذاق فيه ألوانا من التعذيب قبل أن يطلق سراحه ويلقي فى أحد المناطق النائية ، وكان المدعون الألمان قد قالوا سابقا إنهم تلقوا من محققين أسبان  أسماء 20 من العملاء السريين الأمريكيين للسي آي إيه متهمين بالتورط فى عملية الأختطاف التى جرت فى العام 2004  .

محاكمة هؤلاء العملاء جاءت فى ظل إدانة برلمان الأتحاد الأوربي فى 14 فبراير 2007  لأربعة عشر دولة أوروبية شاركت فى تسهيل رحلات جوية تقل معتقلين ومختطفين نقلتهم السي آي إيه عبر مطاراتها إلي جوانتامو  أو معتقلات سرية أخري مجهولة الأماكن .

وكانت السلطات المصرية قد أفرجت قبل أيام عن الأمام المصري بعد أربع سنوات من الأعتقال ذاق خلالها ألوانا مختلفة من التعذيب حتى أنه قال بعد خروجه من السجن أنه تحول إلي أطلال إنسان وأنه لايفكر فى العودة مرة أخري إلي إيطاليا ، وهذا يكشف عن حجم الجرائم التى ترتكب  من قبل سلطات الأمن تجاه بشر  لاذنب لهم سوي أن الأمن يريد أن يصنع منهم مجرمين أو يدمر آدميتهم .

كنت في إيطاليا حينما كشفت تفاصيل كثيرة لهذه القضية المثيرة ، حيث أعلن المدعي العام الأيطالي في قضايا الأرهاب أرماندو سباتارو فى الأول من يونيو من العام الماضي 2006 المضي قدما فى إجراءات محاكمة عملاء السي آي إيه بعدما  أصدر أوامر باعتقالهم واتهم وزارتي العدل الأمريكية والمصرية بعدم التعاون الكافي فى التحقيقات ، وفي 21 يوليو 2006 طلب الأدعاء الأيطالي من وزير العدل مطالبة الولايات المتحدة بتسليم العملاء الستة والعشرين بعدما أضاف إلي المتهمين  أربعة آخرين أحدهم يعمل فى قاعدة أفيانو ، وكانت حكومة رئيس الوزراء السابق بيرلسكوني قد رفضت طلبا سابقا من الأدعاء الأيطالي للمطالبة بتسليم العملاء ، لكن حكومة رومانو برودي  موقفها مناقض لموقف حكومة بيرلسكوني التى كانت موالية تماما للولايات المتحدة ، وفي العشرين من نوفمبر الماضي 2006  أصبح الموقف دراماتيكيا حينما اتخذت الحكومة الأيطالية برئاسة  برودي قرار بإقالة نيكولو بلاري قائد الأستخبارات العسكرية الذي كان يعد من أقوي رجال الدولة في عهد برلسكوني ، وكذلك الجنرال ماريو موري قائد الأستخبارات الداخلية ، كما أقيل ديل ميسيزي قائد الجهاز المشرف على التنسيق بين جهازي الأستخبارات العسكرية والداخلية ، وبحث وقتها توجيه اتهامات لقائد الأستخبارات العسكرية بالتواطؤ مع السي آي إيه في اختطاف الأمام المصري ، واعتبرت تلك القرارات فى ذلك الوقت محاولة من الحكومة لحفظ ماء وجهها وضربة قاصمة للمتعاونين الأيطاليين مع السي آي إيه ولجهاز السي آي إيه نفسه ، وقد دفعت هذه الأقالات القضاء الأيطالي لتوجيه الأتهامات رسميا لرئيس الأستخبارات العسكرية واعتقاله هو وآخرين حيث فتحت لهم ملفات أ خري ربما تودي بهم في غياهب السجون لفترات طويلة ، أما رجال السي آيه إيه المتهمين فإن من بينهم  رئيس محطة السي آي إيه فى ميلانو جيف كاستيلي ، والرئيس السابق للمحطة روبرت سيلدون ليدي , وهؤلاء مسئولون رفيعو المستوي فى السي آي إيه وكان أحدهم وهو ليدي  قد اشتري فيلا فاخرة في ميلانو حتى يقضي فيها باقي عمره بعد التقاعد ، لكن الأمر تحول لاحتمال أن يقضيه إن قبض عليه فى إحدي زنازين ميلانو ، ورغم أن السلطات الأيطالية لم تقرر بعد إصدار مذكرة اعتقال دولية بحق المتهمين إلا أن ما تم حتى الآن يشكل رعبا غير مسبوق وإخفاقا وفضيحة كبيرة لأكبر جهاز تجسس فى العالم في أكبر دولة ومن من ؟ من دولة كانت هي أكبر حلفائه فى أوروبا ، وهذا يضاف لقائمة الأخفاقات التى يتمتع بها الرئيس الأمريكي بوش الذي كتب عنه ألنو هارث مؤسس صحيفة يو إس إيه توداي  ـ أكبر الصحف الأمريكية انتشارا ـ فى افتتاحية الصحيفة يوم الجمعة الماضي 16 فبراير بأنه  ” أسوأ رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة  ” ، كما أن الخزي والعار الذي يلف قائد الأستخبارات العسكرية الأيطالي هو إدانة لكل رجال الأستخبارات الذين يظنون دائما أنهم فوق البشر وأن ما يقومون به لايمكن أن يجرؤ أحد علي مواجهتم به ، فجأة تغيرت الحكومة وجاء يوم الحساب لرجل كان يعتقد أنه فوق القانون بل كان يعتقد مثل غيره من رجال الأمن والأستخبارات الذين يستخفون بآدمية الناس أنهم  القانون ، كما أن ما يحدث فى إيطاليا هو وسام علي صدر القضاء الأيطالي فرغم أن إيطاليا هي من أكثر دول أوروبا وربما دول العالم فسادا إلا أن بها كثير من القضاة الشرفاء الذين دفعوا حياتهم من قبل فى مواجهة الفساد والآن يواجهون الولايات المتحدة ويحاكمون جهاز استخباراتها ويمرغون بأنف عملائه التراب ، إنها الأرادة الحرة لرجال أحرار .

Total
0
Shares
السابق

توني بلير فى ذمة التاريخ

التالي

قوانين الطوارئ وصناعة الخوف

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share