بيروت …. المدينة الخائفة

كنت أمارس هوايتي بالمشي فى شوارع وسط بيروت فى الأسبوع الماضي مستمتعا بلسعة برد جميلة حينما تعرف علي بعض اللبنانيين فأوقفوني وحيوني وقال لي أحدهم : ” دير بالك على حالك هون يا أحمد .. في مصر الأعتداء على الصحفيين يكون بالضرب حتى لو فى ميدان عام كما حدث معك ، أما هنا فبالسيارات المفخخة التى تنسف الشارع أو الميدان بكل من فيه ” .
كانت هذه اللفتة رغم ما فيها من دعابة سوداء تعكس الحالة التى يعيش فيها اللبنانيون ، حالة الخوف والقلق والترقب للمجهول القادم ، فمعرض الكتاب الدولي الذي هو أقدم معارض الكتاب فى العالم العربي والذي كانت زيارتي لبيروت من أجل المشاركة فى إحدي فعالياته والتوقيع علي أحدث إصداراتي ” عصر الملك عبد العزيز وأبنائه ” كان يشكو قلة المترددين عليه بسبب حالة الخوف التى سيطرت على بيروت بعد افتتاح المعرض بيوم حيث تم اغتيال الصحفي غسان تويني رئيس تحرير صحيفة ” النهار ” فلزم الناس بيوتهم خوفا مما هو أكبر ، ولأني منذ عدة سنوات أحرص على زيارة معرض الكتاب فى بيروت فى مثل هذا الوقت حيث عادة ما يصادف الأجازات وأعياد المسيحيين فتكتظ منطقة السوليدير في قلب بيروت بالناس ويصعب أن تجد مكانا لتناول العشاء إلا بحجز مسبق ، فقد تعودت أن أجلس في المطعم الذي ربما يكون الوحيد الذي لا يقدم الخمور فى قلب المدينة ” فراتيلو” وهو لشاب درس الأقتصاد فى جامعة هارفارد إلا أنه كان له هواية غريبة هو الهوس بأنواع الشاي و الأطعمة المختلفة ، ولأن أحب مكان أستمتع فيه في باريس حينما أذهب إليها كان ” مارياج فرير ” أي ” الأخوة مارياج ” وهو مكان ربما لا يعرفه كثير من العرب الذين يذهبون إلي باريس لأنه متخصص فى تقديم أربعمائة نوع من الشاي وفق طقوس خاصة لمحبي وذواقة الشاي ، لكني في إحدي زياراتي لبيروت قبل سنوات تعرفت على شاب أسس نفس الفكرة فى بيروت لكنه زاد عن ” مارياج فرير ” بأكثر من مائة نوع وأصبح يقدم فى قائمته خمسمائة وثلاثين نوعا من الشاي تستطيع أن تطلب أيا منها وتستمع بها مع مأكولات خفيفة وحلويات يقدمها باحتراف وذوق جميل ،غير أنه أطلق علي مطعمه أو مقهاه ” فراتيلو ” وهي تعني “الأخوان ” ولكن باللغة الأيطالية ، غير أن أجمل ما في المكان الذي يقع وسط مطاعم السوليدير هو أنه لا يقدم الخمور ، توقعت أن يكون المكان مزدحما كما أراه دائما فاتصلت على صاحب المطعم لأطلب منه حجز طاولة لي ولاثنين من أصدقائي ، فقال : ستكون جاهزة ، لكني صعقت حينما وصلت إلى السوليدير بعد التاسعة مساء ، يا إلهي ماهذا ؟ الشوارع خالية ، لا أحد يمشي وسط المدينة إلا نفر قليل متناثر من الناس ، والمطاعم التي تعج دائما بالناس وتحتاج إلى حجز مسبق خالية إلا من عمالها ، ونفر قليل من الزابائن وكانت هذه هي المرة منذ سنوات التى أري فيها قلب بيروت على هذا النحو ، كان صديقاي يتحدثان وأنا لا أسمعهما فقد صم ذهولي مما أري آذاني ، أين الناس ؟ أين أهل بيروت ، إلي هذا الحد يفعل الخوف بالناس ؟ وحينما وصلت إلي ” فراتيلو” لم أجد أحدا في انتظار ي وصاحباي سوي صاحب المطعم والعمال ، يا إلهي !! أين الناس ؟ سألت مالك صاحب المطعم ، فقال : ” المدينة كلها خائفة يا أحمد ، حتى جدران المباني أصبحت تخاف من القنابل التى سبق وأن دمرتها فى حرب طويلة من قبل يحاول الناس نسيانها ، والآن شبح الحرب والخوف يملأ كل مكان ” ، فى العام الماضي وفي نفس الوقت كان المكان يعج بالناس ، الآن كنا نمشي وحدنا ، وكان يطالعنا أصحاب المطاعم وعمالهم كل منهم يأمل أن يكون عشاءنا عندهم ، وحال معرض الكتاب لم يكن أحسن من مطاعم المدينة ، وكذلك متاجر المدينة فرغم موسم التنزيلات إلا أن معظمها كانت فارغة من الناس ، فبعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في إبريل الماضي انتقلت بيروت إلي واقع آخر وحياة أخري ، حيث وقعت أربعة عشر عملية تفجير ومحاولة اغتيال نجح كثير منها ، وكلها نفذت باحتراف شديد جعل المسئولين فى الحكومة اللبنانية لا يصلون إلي أي خيط للفاعل ، حتى أن مسئولين من جهازي إف بي آي وسي آي إيه الأمريكيين وصلا إلي بيروت وشاركا فى عمليات التحقيق لكنهم مع أجهزة الأمن اللبنانية لم يتوصلوا إلي شيء ، سألت كل من لقيتهم من صحفيين ورجال أعمال وسياسيين عن رؤيتهم للمستقبل كان الأجماع علي أن المستقبل ضبابي ومن الصعب قراءته ، والضبابية تصنع الخوف ، لذا فإن بيروت كلها تحولت إلي مدينة خائفة .

Total
0
Shares
السابق

السر الذي أغضب العرب و العجم من حماس

التالي

العالم بعد جورج بوش

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share