يـــوم الجــمــعـــة الدامي (1)

خرجت مثل مئات الآلاف من المصريين في ذلك اليوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير عام 2011 لأشارك المصريين في يوم الغضب ضد الظلم والفساد والاستبداد الذي يمارسه النظام الفاسد في مصر بقيادة حسني مبارك منذ ثلاثين عاما وذلك امتدادا لثورة الشباب التي انطلقت في الخامس والعشرين من يناير ـ والتي لم أكن محظوطا للمشاركة في بدايتها حيث كنت خارج مصر ـ، ولأن الصحفيين شهود يؤدون شهادتهم للتاريخ فقد حرصت من اللحظة الأولى أن أكون وسط الناس أنقل نبضهم وأسجل مطالبهم، ذهبت صباحا إلى مكتب قناة الجزيرة في ميدان عبد المنعم رياض المواجه لميدان التحرير حتى أشارك الزملاء تغطيتهم لهذا الحدث الهام، وقد تم ترتيب الزملاء وتقسيمهم إلى مجموعات انطلقت إلى أماكن مختلفة في القاهرة لتصوير التظاهرات التي كانت ستنطلق من المساجد بعد صلاة الجمعة لتتوجه جميعها في النهاية إلى ميدان التحرير، وبعد مشاورات مع الزملاء أجمعوا على ألا أذهب بعيدا لأني سأكون هدفا لقوات الأمن حسب تقديراتهم والأفضل أن أصلي معهم قريبا من المكتب، قررت أن أذهب لأداء الصلاة في مسجد عمر مكرم الذي يقع في ميدان التحرير الذي حدده شباب الثورة ليكون مكانا لتجمع المظاهرات، لكني فوجئت بأن الميدان مغلق من قبل قوات الأمن وأبلغوني أن صلاة الجمعة ألغيت في مسجد عمر مكرم وأمروني كما أمروا الجميع بالعودة، ذهبت لأقرب مسجد بجوار مكتب قناة الجزيرة قريبا من مبنى التليفزيون و أديت الصلاة في الشارع مع جموع الناس، وكان معي بعض الزملاء الذين قرروا العودة للمكتب فأخبرتهم أني سأذهب إلى شارع رمسيس لمتابعة التظاهرات القريبة لاسيما عند نقابة المحامين بعدما تم تفريغ نقابة الصحفيين من المتظاهرين فيها بالقوة ـ يوم الخميس ـ وأجمع لهم بعض المعلومات عما يدور هناك فأنا صحفي ميداني ولا أحب الحصول على المعلومات في المكاتب، وأخبرتهم أني إذا لم أعد خلال ساعتين فعليهم أن يدركوا أني قبض علي أو أصبحت مفقودا، لم أجد أحدا في البداية من يصاحبني فقررت الذهاب وحدي رغم مخاطر ذلك لكن أحد الزملاء قرر في اللحظة الأخيرة أن يصاحبني.
ما إن دخلنا إلى شارع رمسيس من ناحية ميدان عبد المنعم رياض حتى وجدنا حشودا هائلة من قوات الأمن محتشدة إلى جوار معهد الموسيقى العربية وجمعية الشبان المسلمين فيما كانت قوات أخرى تحيط بنقابة المحامين التي كان فيها مجموعات من المحامين محاصرة لا يستطيع أحد أن يدخل إليهم وهم لا يستطيعون الخروج إلى الشارع، وسط الحشود الهائلة لقوات الأمن التي كانت متحفزة كانت هناك سيارتان لقوات الأمن مدرعتان من قاذفات القنابل تقفان في مواجهة نقابة المحامين مستعدتان للتوجه إلى أي مظاهرة تتحرك في المنطقة، كان هناك عدد كبير من سيارات الأمن المركزي تقف في شارع رمسيس وشارع 26 يوليو، بينما كان المئات من رجال الأمن بالزي المدني الذي يرتديه عامة الناس يقفون مجموعات حول ضباط المباحث وضباط أمن الدولة الذين يرتدون الملابس المدنية غير التشكيلات التي كانت ترتدي الزي العسكري، وكانت كل مجموعة من هؤلاء الذين يرتدون الملابس المدنية يحملون الهراوات الخشبية بينما آخرون لا يحملون شيئا وعلمت أن هؤلاء يندسون وسط المتظاهرين ويختطفونهم بينما كان الكثيرون منهم ينتشرون في الطرقات يتنصتون على الناس ويرصدون تحركاتهم، كان زميلي يعرف كثيرا من السيناريوهات التي تتم في مثل هذه المواجهات لذا طلب مني أن أتمالك نفسي ولا أنفعل لأي شيء أراه أمامي، وأن أكون هادئا وفي النهاية فإني صحفي جئت لنقل الحقيقة إلى الناس ثم طلب مني أن أخرج بطاقتي الصحفية وأن أضعها في جيب متاح لأنها ستطلب مني كثيرا في ظل هذا العدد الهائل من رجال الشرطة السرية ورجال الأمن الذين من السهل عليهم التعرف على ومحاولة إبعادي عن المكان، كنت ألتزم بما يقوله لي لأني في النهاية أريد البقاء والاطلاع على كل ما يحدث لأعود للزملاء بحصيلة كبيرة من المعلومات كشاهد عيان نقدمها للمشاهدين رغم عدم وجود كاميرا معي.
ما إن وصلنا إلى تقاطع الاسعاف حتى سمعنا صوت أول تظاهرة قادمة من شارع رمسيس باتجاهنا ويبدو أنها كانت قادمة من مسجد قريب سرعان ما تحرك نحوها رجال الشرطة السرية فأحاطوا بها وكان كثيرون منهم مندسين داخلها ومن آن لآخر كانت كل مجموعة منهم يخرجون بأحد الشباب يحيطون به ويضربونه ثم يأخذونه إلى سيارة أمن مركزي كبيرة يدخلونه فيها وقد رأيت معظم الشباب يقاومون رجال الأمن بقوة ويمشون بعد ذلك بعزة رافعي الرؤوس تجاه سيارات الأمن وحينما وصلنا أمام سيارة الأمن كانوا يدخلون فيها أحد الشباب وصاح الضابط قائلا: «هذا رقم 25» لا أنكر أني كنت أفور من داخلي وهممت أكثر من مرة أن أهجم عليهم حتى أخلص أحد الشباب من بين أيديهم بينما كان زميلي يلح على أن أتمالك نفسي حتى نكمل مهمتنا.
كان رجال الأمن يتعاملون بهستيريا مع الجميع ويضربون الصحفيين ويكسرون كاميراتهم حتى إني وجدتهم يضربون شخصا يحمل كاميرا بقسوة تبين لي أنه غربي وحينما حملوه إلى الضابط أخرج جواز سفره فتركوه بعدما أوسعوه ضربا ثم جاء ناحيتي وهو يلهث ويلملم نفسه قلت له: من أين أنت؟ قال من فرنسا؟ قلت له هل أنت صحفي؟ تلعثم لا أعرف خوفا مني أن أكون من الشرطة السرية أم من الضرب المؤلم الذي تعرض له في كل أجزاء جسده، قلت له: لا تخف أنا صحفي مثلك وأخرجت له هويتي حتى يطمئن، لكن صراخ رجال الأمن فينا أن نتحرك بسرعة من المكان جعله يلملم حاجاته ويختفي، كنت أدرك أن أوامر صارمة صدرت لرجال الأمن أن يقتلوا الحقيقة عبر مهاجمة الصحفيين والاعتداء عليهم وكسر كاميراتهم من اللحظة الأولى.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
شباب يناير

حوار مع عدد من قادة ثورة 25 يناير حول مطالبهم من المجلس العسكري

التالي

يوم الجمعة الدامي (2)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share