يوم الجمعة الدامي (2)

بعد اختطاف عدد كاف من الشباب صدر الأمر للسيارتين اللتين تقذفان القنابل أن تتوجها للمسيرة وبالفعل جاءت السيارتان ووقفتا بمحاذاتنا تماما حيث كنا على أطراف التظاهرة من ناحية رجال الأمن، وسرعان ما بدأتا تمطران المتظاهرين بوابل من القنابل المسيلة للدموع بشكل هستيري حاقد وكأنهم يقاتلون أعداء وليسوا إخوانا لهم في الوطن، وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها بشكل مباشر مثل هذه المواجهات القاسية من قبل رجال الأمن تجاه المتظاهرين حيث كانت بالفعل حربا غير متكافئة، لقد غطيت عدة حروب ورأيت كيف يتعامل السوفيات مع الأفغان والأميركان مع العراقيين والصرب مع مسلمي البوسنة والهرسك لكنها كانت المرة الأولى لي التي أرى فيها مصريين يطلقون فيها القنابل المسيلة للدموع و الرصاص المطاطي القاتل وبعد ذلك الرصاص الحي على مصريين مثلهم وهذا ما كان يجعل الدماء تغلي في عروقي وتلح على أن أتجاوز الموقف كشاهد إلى مشارك مع المتظاهرين، لكن بطولة الشباب وعنادهم ومواجهتهم البطولية لرجال الأمن كانت تشفي غليلي وتملأ نفسي بالأمل واليقين أن الدولة الأمنية في مصر تسقط أمامي الآن في هذا اليوم المجيد طالما أن المصريين قرروا أن يحرروا بلادهم من مختطفيها الذين يحكمونهم، يحرروها بدمائهم التي بدأت تسيل أمامي في يوم الجمعة الدامي.
تفرق الشباب بعد إطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم بكثافة رهيبة ودخل كثيرون منهم شارع سوق التوفيقية المتفرع من شارع رمسيس وشوارع جانبية أخرى، أذهلني ما رأيت بعد ذلك فقد تحركت إحدى السيارتين القاذفتين للقنابل ووقفت على رأس الشارع وخرج منها ضابط برتبة نقيب وأخذ يطلق الرصاص المطاطي بشراسة وحقد دفين على المتظاهرين وبشكل مباشر مع كم هائل من القنابل المسيلة للدموع وصاح رجال الأمن فينا أن نتحرك بعيدا بعدما بدأ التوتر الشديد يخيم على المشهد، طلب مني مرافقي أن نبتعد لكني طلبت منه أن نبقى قليلا ووقفنا بالفعل لنجد شيئا زاد ذهولي لقد تجمع الشباب مرة اخرى وبسرعة فائقة وقاموا وهم عزل بهجوم مضاد على رجال الأمن الذين وجدتهم يتقهقرون أمامهم كالفئران المذعورة رغم ما في أيديهم من سلاح وعتاد وقوة، ثم تراجع الشباب مرة أخرى بعدما فر رجال الأمن ولا أدري أين ذهبوا لكني سرعان ما وجدت السيارات القاذفة للقنابل تتحرك تجاه شارع 26 يوليو مع أعداد كبيرة من رجال الشرطة السرية والضباط وحتى الجنود وقال مرافقي من المؤكد أن هناك مظاهرة أخرى قادمة من هذا الشارع، لكني فوجئت بأن الشباب لديهم خطة مدروسة وهي إنهاك رجال الأمن في هذه الشوارع الفرعية الكثيرة الموجودة في تلك المنطقة ـ وهذا ما قاموا به بالفعل ـ لأني سرعان ما سمعت أصوات تظاهرة أخرى قادمة من جهة بولاق أبو العلا وصحيفة الأهرام اتجهت نحوها قوة أخرى من رجال الأمن وبعض السيارات ثم ظهرت تجمع ثالث قادم من ناحية مسجد الفتح في شارع رمسيس فأسقط في يد الأمن وأصبح يتعامل بهستيريا وقسوة شديدة مع الموقف ولا يعرف من أين يمكن أن يلاحق التظاهرات التي جاءت من كل مكان، أخذت قوات الأمن تتبعثر فيما كان الضباط يصدرون الأوامر بسهتيريا إلى الجنود الاحتياطي الذي كانوا لايزالون في السيارات أن ينزلوا ويشاركوا زملاءهم الهجوم على التظاهرات التي كانت تنشق الأرض من كل شارع وتخرج تهتف بسقوط مبارك ونظامه فيما بدأت القوات تتبعثر وتطلق القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي بغزارة شديدة فأصبحنا في ساحة حرب حقيقية أبطالها شباب مصري أعزل خرج يحرر بلاده من الفاسدين الذين سطوا عليها ويحكمونها وجنود هذا النظام الفاسد الذي كان يتعامل مع المصريين بامتهان واستلاب لثرواتهم وآدميتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة، أصبح دخان القنابل المسيلة للدموع يغطي المكان بشكل مريع لاسيما وأن الهواء كان يحرك كما هائلا من الدخان من ناحية ميدان عبد المنعم رياض الذي نظرت إليه فوجدته مشتعلا بتظاهرات أخرى وقوات أخرى من الأمن تواجهه تتمركز في ناحية المتحف المصري وميدان التحرير.
كنت تماما وسط المعركة حينما قررت العودة للمكتب ـ بعدما قضيت ما يزيد على ساعة ونصف الساعة وسط التظاهرات ـ حتى أنقل للزملاء ما يدور في المنطقة وما رأيته حتى ينقلوه للزملاء في الدوحة في نشرة الساعة الثالثة التي كان قد اقترب وقتها، قال مرافقي من الأفضل أن نسير بمحاذاة دار القضاء العالي ونقابة المحامين والصحفيين حتى نتجنب الصدامات التي كانت قائمة بين المتظاهرين في شارع الجلاء وقوات الأمن أمام جمعية الشبان المسلمين وبالفعل تحركنا لكن، ما إن وصلنا أمام نقابة المحامين حتى وجدت أحد الضباط بلباس مدني يركض نحوي من الجهة المقابلة للشارع وحوله عصابته من الشرطة السرية بلباس مدني وكان واضحا من طريقته في الهجوم علي أنه قد عرفني لأن آخرين غيري كانوا يمشون في الشارع بشكل عادي دون أن يسألهم أحد عن شيء طالما أنهم لا يشاركون في التظاهرات. وقف الضابط أمامي وأخذ يصرخ في وجهي بهستيريا وصوت مرتفع عدة مرات متلاحقة: «من أنت ولماذا جئت إلى هنا؟ بينما أحاط بي رجاله من الشرطة السرية من كل جانب ولم أعد أرى أحدا سواهم حتى مرافقي لم أعرف أين ذهب؟ قلت له بهدوء طالما سألتني من أنا فمن المؤكد أنك تعرفني؟ قال: أعطني هويتك الصحفية؟ مددت يدي في جيبي حتى أخرج هويتي فأطبق رجاله الخناق علي وبدأ بعضهم بالاعتداء علي، قاومتهم رغم كثرتهم وصرخت فيه قائلا: «من يضربني سوف أضربه أيها الجبناء» وكررتها أكثر من مرة بصوت عال غاضب. في هذه اللحظة لمحني ضابط آخر ويبدو أنه عرفني لأنه صاح فيهم لا تضربوه، لكني رفعت صوتي عليهم وأهنتهم وكدت أضربهم بعدما خففوا الخناق عني لولا أن أحد الذين أمسكوا بي صاح فيهم ابتعدوا لا تضربوه واتركوه لي بينما أخذ الضابط الأول بطاقتي الصحفية وأخذ يركض تجاه ضابط أكبر منه يرتدي الزي المدني وسمعته يقول له «أبلغ القيادة» فقد كنت صيدا ثمينا بالنسبة لهم، أوقفوني في البداية وسط سيارات الأمن المركزي التي كانت تقف على جانب الشارع بينما طلب ضابط الأمن المركزي إبعادي عن السيارة، لكن الضابط الذي كان يرافقني طلب من رجال الأمن الذين كانوا يرافقونني أن أبقى مكاني كنت قريبا من ضباط الأمن وأسمع كلامهم وتوجيهاتهم للقوات وشعرت بأنهم في حالة هيستريا وفقدان للتوازن حيث تكثر الشوارع الجانبية في تلك المنطقة التي كان الشباب يفرون إليها ثم يفاجئون رجال الأمن بالخروج من شارع آخر، وفي كل مرة كان ضباط الأمن يطلبون مزيدا من القوات وقاذفي القنابل أن يخرجوا لمواجهة مزيد من التظاهرات.
بالنسبة لي يبدو أنهم حينما اتصلوا بالقيادة طلبوا منهم إبقائي رهن الاعتقال وهذا كان اختطافا لأني صحفي أقوم بواجبي وعملي وليس من حق أحد اعتقالي أو احتجازي أثناء قيامي بأداء عملي، لم أكن أعلم شيئا عن مرافقي لكني علمت بعد ذلك أنه أفلت بذكاء شديد من بين أيديهم حينما وجدهم مشغولين باعتقالي وكأني صيد ثمين بالنسبة لهم وذهب إلى مكتب قناة الجزيرة وأبلغ الزملاء بالاعتداء علي واختطافي من قبل رجال أمن بلباس مدني وبث الخبر مباشرة على شاشة الجزيرة، بعد قليل طلب الضابط من رجال الأمن الذين كانوا يحيطون بي أن يدخلوني إلى العمارة رقم 47 شارع رمسيس وأن يحتفظوا بي في المدخل بعدما كان كثير من الناس الذين يمشون في الشارع يتعرفون علي وبعضهم كان يتجه نحوي للسلام علي ثم يفاجأ بأني بقبضة البوليس السري ومن الطرائف التي أذكرها هنا أن أحد الناس الذين كانوا يمرون في الشارع لمحني من بعيد فأعتقد أني أقف في الشارع فجاء نحوي مسرعا وحياني وقال لي: هل تسمح لي بصورة معك؟ قلت له: أنا مقبوض علي ومحتجز من قبل الأمن امتقع المسكين وهرول بعيدا وهو يلملم أطراف نفسه، وطرفة أخرى أن أحد رجال الأمن جاءني وأنا رهن الاعتقال وقال لي هل يمكن أن تعطيني بطاقة لك أريد أن أفخر أمام أهلي أني قابلتك قلت له: يمكنك أن تفخر أمامهم أنك شاركت في اعتقالي، استحى الرجل وقال لي: لو كان الأمر بيدي لأطلقت سراحك فورا فأنت تستحق التقدير لا الاعتقال.
بقيت في مدخل العمارة أرقب ما يدور وأستمع لما يحدث في المنطقة واعتبرتها جزءا من مهمتي في رصد ما يحدث وشاهدت أشياء كثيرة من أهمها أن رجال الأمن الذين كانوا يرتدون اللباس المدني ويتحركون للقبض على المتظاهرين واعتقالهم مع الضباط معظمهم من المجرمين والبلطجية ورجال السوابق ومرشدي الأمن الذين يعمل بعضهم في وظائف مدنية عادية كما أن الكثير من سائقي سيارات الميكروباص الذين يعملون معهم كانوا موجودين بسياراتهم حتى يضعوا المقبوض عليهم في السيارات حينما تضيق سيارات الأمن الكبيرة بهم، وسمعت أحد رجال الأمن وهو يقول للآخر، كلما مر ضابط ومعه عصابته حوله، «فلان بيه وعصابته»، وبعد قليل يمر آخر فيقول «فلان بيه وعصابته»، فأدركت أن معظم هؤلاء الضباط مجرمون يستخدمون مجرمين لمهاجمة الشباب وتجاوز كل حقوق إلانسان والتعدي على الشعب، لم أتخيل مطلقا أن أجد ضابطا مصريا يقتل مصريا بغل وحقد وكراهية كما شاهدت هؤلاء الضباط الذين كانوا يطلقون الرصاص المطاطي والقنابل على المتظاهرين الذين كانوا يتساقطون جرحي فيحملون بعضهم إلى الصفوف الخلفية ثم إلى المستشفيات وكأنما هم جنود في معركة بينما يواصل الآخرون مواجهة رجال الأمن الذين يحمون النظام الفاسد، وقلت في نفسي من المستحيل أن يقوم ضابط مصري بإطلاق النار على أخيه المصري بهذه الطريقة إلا بعد أن يتم شحنه نفسيا بالكراهية والحقد والغل وأيضا منح الامتيازات المالية والوعود والأماني حتى يمارس القتل والإجرام لصالح الفاسدين الكبار وكأنه مرتزق مأجور فبدلا من أن يحمي الناس يقتلهم.
مر علي حوالي ساعة ونصف الساعة وأنا في حالة الاختطاف هذه أو الاعتقال لم أتبرم لأني كنت أشاهد بقية المشهد الدامي وأعرف المزيد من التفصيلات من خلال متابعتي لرجال الأمن الذين دخلوا مرحلة من الإرهاق والتشتت من المؤكد أنهم لم يحسبوا حسابها لاسيما مع الشجاعة المذهلة التي وجدتها من الشباب وهم يواجهون الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع بصدور عارية وشجاعة متناهية وبسالة مذهلة.
لاحظت أن الضباط يستخدمون الحمام الخاص ببواب العمارة التي كنت محتجزا فيها ومن ثم كانوا يدخلون تباعا إلى العمارة ليقضوا حاجتهم إلى أن جاء ضابط يبدو عليه أنه من ضباط أمن الدولة وحينما وجدني كأنما فوجئ بوجودي، كنت ممتلئا من داخلي بالغضب على ما يحدث للشباب وحينما تكلم معي صببت عليه جام غضبي وكأني غاضب لنفسي وليس لهم، وقلت له أني لن أتهاون مع هذا الضابط الذي اختطفني من الشارع ولن أتسامح مع من اعتدوا علي وإذا لم تخرجوني فورا من المكان فإني أحملكم مسؤولية سلامتي لاسيما وأني قد عرفت أسماءهم جميعا ومناصبهم وسوف ألاحقهم، قابل هذا الضابط غضبي بإنصات وهدوء وحاول أن يمتص غضبي وتفهم وطلب مني أن أهدأ ووعدني بأن يرد إلي حقي خلال دقائق، وأبلغني بأنه يتابع برامجي هو ووالده وقد تعلم كثيرا منها لاسيما «شاهد على العصر» وقال لي سوف تخرج فورا لكن سأرد إليك حقك أولا لأنك «شخص محترم ويجب على الجميع احترامك» هدأت كثيرا بعد كلماته وما هي إلا دقائق معدودة حتى وجدته يعود إلي ومعه بطاقتي الصحفية والضابط الذي اختطفني من الشارع وقال لي «لقد أحضرته حتى يعتذر إليك» قلت له بغضب شديد «لن أقبل اعتذاره وأنا أعرف وجهه وعرفت اسمه وسوف آخذ حقي منه فيما بعد لأني لن أتسامح مع من اعتدوا علي، أخذ الضابط الذي اختطفني يلح علي في قبول الاعتذار وحاول أن يقبل رأسي فأبعدته ولم أجبه وتوعدته، قال الضابط الآخر الذي أفرج عني: إلى أين تريد أن تذهب؟ قلت سأعود إلى مكتب قناة «الجزيرة» في ميدان عبدالمنعم رياض» قال: لن تستطيع فهناك اشتباكات شديدة ومشتعلة والأفضل أن تتجه لشارع رمسيس أو منطقة العتبة، قلت له لا حاجة لي بشارع رمسيس أو العتبة ولابد أن أعود إلى المكتب فزملائي ينتظرونني، قال لي: أريد أن أؤمن خروجك من هذا المكان حتى لا أتحمل أية مسؤولية تجاهك قلت له أنا أعرف طريقي وسوف أذهب قال إذن اسمح لي أن أرسل لك مرافقا من مساعدي يصحبك إلى هناك، ونادى على أحد مساعديه حتى يصحبني لكن قنابل الغاز المسيل للدموع التي يحملها الهواء القادم من ناحية ميدان عبد المنعم رياض لم تمكنا من المسير أكثر من عشرة أمتار فقد كانت كثيفة وغزيرة وعبأت الهواء كله بالرزاز حتى الجنود كانوا لا يستطيعون تحملها.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

يـــوم الجــمــعـــة الدامي (1)

التالي

يــوم الجــمــعــة الدامي (3)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share