حــــــوارات فـــي تونـــس (2)

سألت سائق التاكسي الذي حملني من مطار قرطاج الدولي إلى الفندق عن الأوضاع في تونس فقال: الحمد لله على كل حال، هناك تأثر كبير لكن ما حققناه يجعلنا نصبر عاما كاملا وربما أكثر على ما نحن فيه حتى يعود الاستقرار للبلاد، إن عمري ثلاثون عاما منذ أن وعيت وأنا أعيش تحت القهر والاستبداد والملاحقة، وقد كنت أعيش في دولة خليجية وأعمل في مطعم هناك وكنت سعيدا بعملي وكان أملي حينما أعود إلى تونس أن أفتح مطعما من حصيلة مدخراتي ، لكني فوجئت بأحد موظفي السفارة وكان رجل الأمن بها ويعمل تحت غطاء دبلوماسي يتصل بي ويأتي لزيارتي في المطعم الذي كنت أعمل به ثم يطلب مني أن أعد له تقارير عن التونسيين الذي يترددون على المطعم ونوعية ما يدور بينهم من نقاشات وأحاديث، قلت له: أنا لا أستطيع القيام بذلك متعللا بأن إدارة المطعم يمكن أن تفصلني من عملي إذا علمت بذلك، لكنه قال: هذا أمر عليك أن تنفذه وإلا سوف تدفع ثمنا باهظا، بعدها عشت أياما سوداء تحت الضغط واتصاله الدائم بي وسؤاله عن التقارير، ودخلت في صراع بين ما يمليه ضميري وما يطلبه مني، ولما كررت رفضي متعللا بنفس السبب ما كان منه حينما انتهى جواز سفري إلا أن رفض تجديده من ثم لم تجدد إقامتي وتم فصلي من عملي وعدت ملاحقا من أجهزة الأمن هنــا بتهمة عدم التعامل معهم.
عملت في عدة مطاعم في تونس حتى أستطيع أن أعيل نفسي وأسرتي، وكان الناس هنا لا يتحدثون في السياسة خوفا من النظام و كان النظام قد نجح في أن يجعل الناس كلها تتجسس على بعضها البعض حتى أن أحدنا كان يخشى من التكفير في شيء ضد النظام خوفا من أن يكون هناك من يقرأ أفكاره، ثم عملت بعد ذلك سائق تاكسي وكان كل من يركب التاكسي يخشى من الحديث لأن كثيرا من سائقي التاكسي كانوا يتعرضون لنفس الضغوط حتى يعملوا مع أجهزة الأمن لكن الناس بطبيعتها كانت تعاني من الضغوط حتى انقشعت الغمة وسقط النظام وتنفسنا الصعداء وأصبحنا أحرارا كما خلقنا الله، قلت له هل تأثر دخلك عما كان عليه قبل الثورة ؟ قال: لا شك أنه تأثر كثيرا لكن ما يهمني هو أن أعيش مستورا لا أمد يدي إلى الناس، والحمد لله أعيش على الكفاف ويمكنني أن أعيش عاما آخر أو أكثر لأن الحرية هي أهم شيء وقد استرددتها إذ لا شيء أهم من الحرية ؟ .
دخلت صيدلية لشراء دواء فعرفتني إحدى الصيدليات العاملات وكن كثيرات وسرعان ما التففن حولي وأخذن يوجهن لي الأسئلة: قلت لهن أنا الذي سأسأل: وكان سؤالي الأول لهن عن المستقبل: قالت إحداهن: إننا نشعر بقلق كبير، فكأن كل ما قمنا به خلال الثورة يقذف به الآن في البحر، عادت نفس الوجوه لتحكم وإن كان من وراء ستار، كما أن أصدقاء بن علي من رجال الأعمال يقومون الآن بتشكيل أحزاب جديدة للالتفاف على الثورة مستخدمين سطوة المال، ونفوذهم السابق بمعرفتهم بكثير من تفاصيل الأمور في البلاد، كما أننا نخشى من حركة النهضة الإسلامية؟ قلت لهن: لماذا تخافون من النهضة ؟ قالت إحداهن: نخشى أن تعيد النهضة القانون الذي ألغاه بورقيبة والذي يسمح بتعدد الزوجات، لذلك نحن ضد النهضة، قلت لهن: هل معنى ذلك أن حركة النهضة يمكن أن تكون مقبولة منكن إذا أبقت على قانون بورقيبة الذي يمنع تعدد الزوجات قالت إحداهن: نعم سأكون مع النهضة إذا أبقت القانون الذي يمنع الزواج الثاني: قلت لهن: الرجال في تونس لا يقفون في الطوابير من أجل الزواج الثاني فلا تقلقن من هذا الأمر لأن الوضع الاقتصادي سيئ، كما أن المرأة التونسية اكتسبت قوة هائلة ضد الرجل في السنوات الماضية وأصبح الرجل مسكينا يستجدي رضا المرأة، فضحكن جميعا قلت لهن: إذا كان هذا ما يخيفكن من النهضة فإن النهضة ربما ستبقي على القانون حتى تحافظ على هذا الزخم العالي من التأييد من قبل النساء . لقد نجح بورقيبة ومن بعده بن على طوال ما يقرب من ستين عاما في تغريب المجتمع التونسي، لكن التوانسة لم يصبحوا غربيين بالكلية، كذلك لم يستطع بورقيبة وبن علي من قطع جذورهم مع تراثهم الإسلامي وحضارتهم العربية، وقد سألت أحد مدراء الفنادق التي أقمت بها خلال نقاش معه عن تونس و الهوية في ظل الانفتاح الهائل على السياحة باعتبارها أحد مصادر الدخل الرئيسية للبلاد قال الرجل: إنني أعمل في السياحة ولا أرى تعارضا بين عملي وبين ضرورة عودة تونس إلى جذورها العربية والإسلامية إننا لم ولن نصبح أوروبيين مهما قلدنا الغرب في سلوكياته وقوانينه فالغرب لم ولن يقبلنا، كما أن هويتنا الإسلامية ستبقى هي الجذور التي نهوي إليها، حملت مخاوف النساء وكثير من طبقات المجتمع إلى قطبي حركة النهضة في تونس عبد الفتاح مورو خطيب الحركة المفوه بل أحد أبرز الخطباء الذين صادفتهم من حيث الحضور والزعامة والتأثير في الناس، والذي ظل محروما من الخطابة طوال ما يقرب من ثلاثين عاما، لكنه الآن من أبرز خطباء تونس في السياسة والدين وعلوم الحياة له جمهور واسع من الإسلاميين وأغلبه من غيرهم نساء ورجالا، كبارا وصغارا، شبابا وكهولا، رأيته للمرة الأولى خلال حوار صحفي أجريته معه قبل خمسة وعشرين عاما فوجدته يذكر تفصيلاته كأننا التقينا بالأمس، و قد تعرض الرجل في عهد بن علي إلى اضطهاد وظلم بين، حتى أنه كان يتحرك وحوله ثلاثة عشر ضابطا وجنديا ومخبرا يحصون عليه حركاته وسكناته جهارا نهارا، فيقضي عمله في المكتب والمحكمة ثم يعود حبيسا في بيته لا يطرق بابه أحد حتى اليوم التالي، وقد كان موروا قاضيا ثم ترك القضاء وعمل بالمحاماة وهو من مؤسسي حركة النهضة غير أنه الآن ليس في مجلسها القيادي جلست معه أحاوره وأناقشه عدة ساعات حول مستقبل تونس فوجدته يحمل رؤية ثاقبة لمستقبل تونس السياسي تزيل كثيرا من المخاوف عن وصول الإسلاميين للسلطة وتزيل كثيرا من مخاوف النساء في تونس، ولما ظهر مرتين أو أكثر في برامج تليفزيونية تونسية قلب فيها الرأي العام رأسا على عقب بسبب قدرته الهائلة على إزالة الخوف الذي يبثه العلمانيون من الإسلاميين، قرر العلمانيون الذين يسيطرون على معظم وسائل الأعلام هناك عدم استضافته للحديث في أية محطة تليفزيونية تونسية، أما الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الذي أبعد عن بلاده ما يقرب من ربع قرن، فقد رأيت منه حينما التقيته رجلا آخر غير الذي عرفته، فقد كان منبسطا في الحديث والدعابة والضحك والانشراح وكان بذلك رجلا آخر غير راشد الغنوشي الذي عرفته مهموما منقبضا لا يرى أفقا قريبا لسقوط نظام بن علي، سألته عن سر شخصيته الجديدة فقال: حتى أنا لا أعرف لكن الجميع يحدثني عن ذلك فأدركت قسوة الإبعاد القسري للناس عن بلادهم . التحديات أمام التونسيين كثيرة وأمام النهضة أكثر والحديث من خارج منظومة الحكم وانتقاده تختلف كثيرا عن ممارسة الحكم وإدراك التعقيدات الهائلة الموجودة في منظومته، غير أني حينما قمت بجولة في مدن الشرق والجنوب والجنوب الأوسط والغرب للوقوف على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الثورة وجدت أن العبء جدا ثقيل على كل من سيأتي لحكم تونس.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
عمرو عز

عمرو عز (2) : كواليس جمعة الغضب و كسر سطوة الشرطة المصرية

التالي
عمرو عز

عمرو عز (3) : تأثير خطاب مبارك العاطفي في الثوار وعودتهم للميدان بسبب موقعة الجمل

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share