حــوارات فـي تـونــس (3)

ذهبت الى مدينة سيدي بوزيد حيث اندلعت الشرارة الأولى لثورة تونس حينما أحرق محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر الماضي بسبب اهانة ضابطة شرطة له حيث صفعته على وجهه وصادرت ممتلكاته حيث كان يعيل عائلته كبائع متجول، شأنه في ذلك شأن كثير من حملة المؤهلات العليا في تونس.
جلست ساعات على المقاهي حيث يقضي كثير من التوانسة في تلك البلاد ساعات النهار أتحدث مع الناس وأحاورهم، لأعرف كيف كانوا يحكمون وكيف مات الخوف فجأة في نفوسهم وأصبحوا لا يهابون الموت فكتبت لهم الحياة، من شهود العيان الذين التقيت بهم شاب يدعى عمر أولاد علي كان يعمل مندوبا لإحدى شركات الأغذية رغم أنه جامعي درس في جامعة صفاقس، يقول: ذهبت فور سماعي بخبر حرق البوعزيزي لنفسه الى المكان الذي أحرق فيه نفسه فوجدت جمعا من الناس وبعض رجال الشرطة، كان الناس غاضبين لكنهم كعادتهم كانوا خائفين، كانوا بحاجة الى من يزيل الخوف من نفوسهم ويقودهم فجأة وجدتني أستجمع شجاعتي فقمت خطيبا فيهم كما كنت أفعل في الجامعة وما ان تحدثت فيهم حتى انقشع حجاب الخوف وتذكرت قصيدة كنت قد رددتها في جامعة صفاقس خلال دراستي وكانت ضد بن علي حينما مر على حكمه عشرون عاما ولا أعرف كاتبها فكررتها على جمهور المتجمعين وأذكر من بين أبياتها: يا قائدا للفسق دون هوادة
يا محاربا للدين يا ظلام
خنت الأمانة واستهنت بشعبك
ولبست ثوبا شانه الأجرام
عشرون مرت والحياة كئيبة
والشعب أظلم دونه الأظلام
تحمس الناس بعدها والتفوا حولي حتى بلغوا حوالي خمسمائة شخص، وكان هناك عشرات من رجال الشرطة لكنهم كانوا أقل من أعداد المتظاهرين، بعدها وجهت كلامي للشرطة منتقدا وقلت كلاما يقطع الرأس كما يقول التوانسة، وفي ختام كلامي قلت لهم: أنا عمر أولاد علي وملفاتي في أمن صفاقس يمكنكم مراجعتها، ثم قلت للمتظاهرين ان كنتم رجالا فيجب أن نلتقي غدا في نفس المكان وان لم تجدوني فاعلموا أني اعتقلت.
فوجئت بأن الناس التفوا حولي وقالوا لن يستطيع أحد أن يعتقلك سوف نحميك، قلت لهم أنا مندوب لإحدى الشركات وعندي بضاعة يجب أن أسلمها وسوف ألقاكم غدا صباحا، رغم خوفي من الاعتقال لم يقترب مني أحد من الشرطة.
في اليوم التالي اجتمع الناس وبدأت المناوشات التي استمرت عدة أيام ثم امتدت الى المدن الأخرى وكان تحرك المحامين في تالا دافعا ووقودا مميزا للثورة.
بعد سيدي بوزيد ذهبت الى تالا وهي أعلى مدينة في تونس تقع على ارتفاع يقترب من ألف وأربعمائة متر من سطح البحر وبها أعلى قمة في تونس جبل شعامبي الذي يبلغ ارتفاعه 1545 مترا وهي لا تبعد عن الحدود الجزائرية أكثر من أربعين كيلومترا استقبلني أهلها على المقاهي حيث يجلس أغلب الناس سحابة النهار بسبب انتشار البطالة في تلك البلاد، وبعدما روى لي أهل تالا جانبا من الأحداث التقيت أستاذة القانون والمحامية البارزة من أهل تالا منية بوعلي التي كانت أحد رموز الحركة الثورية هناك، حيث لعب المحامون دورا بارزا في الثورة التونسية بشكل عام.
كان التحرك الأول للمحامين في تالا في 22 ديسمبر، وفي 3 يناير ظهرت الشعارات السياسية للمظاهرات بشكل بارز خبز وماء بن علي لا بن علي صبرك صبرك في تالا راح نحفر قبرك بعدها بدأ عصيان مدني عام في تالا في 4 يناير، صاحبه تنسيق كامل بين السكان، تحرك الأمن بعدها بكثافة تجاه تالا وبدأ عمليات القاء قبض على السكان والناشطين وتم وضع تالا تحت الحصار الكامل من الرابع من يناير وحتى سقوط الشرطة وخروجها من المدينة في 12 يناير،الحصار قاده العميد يوسف عبد العزيز وهو أبرز قيادات الشرطة وله تاريخ حافل في اخماد تظاهرات واحتجاجات الحوض المنجمي التي وقعت في العام 2008 والتي سببت احراجا بالغا لنظام بن علي بل ان كثيرين يعتبرون أحداث الحوض المنجمي هي الإرهاص الأساسي الذي مهد لثورة 17 ديسمبر، أدى حصار تالا الى تحرك مدينة القصرين التي هي عاصمة الولاية وإلى تحرك مدن أخرى ففي الوقت الذي هدأت فيه سيدي بوزيد قليلا أخذت تالا شعلة الثورة وألهبت بها مدن الجنوب الأوسط وعلى رأسها القصرين والرجيب، دخل الجيش تالا وهي محاصرة من قوات الأمن نهار الثامن من يناير لكنه كان على الحياد وكانت الشرطة هي التي تحرك كل شيء، وفي هذا اليوم بدأ سقوط الشهداء.
في تالا كان الأحد 9 يناير يوما عصيبا وكئيبا على المدينة فقد أصيب بعض الشبان برصاص الشرطة وتركوا ينزفون حتى الموت حيث لم تسمح الشرطة التي كانت تحاصر المدينة لأي من سيارات الأسعاف أو حتى لأهل المدينة أن يسعفوا مصابيهم بل ان بعضهم بقي في الحفر التي أصيب فيها ولم يتمكن أحد من الوصول اليه الا بعد أن أصبح جثة هامدة والأنكى من ذلك أن الشرطة لم تسمح بدفن الشهداء الذين سقطوا، وأخبرتني منية بوعلي أنها ذهبت للتفاوض مع قيادة الشرطة وتحديدا مع العميد يوسف عبد العزيز من أجل دفن الشهداء لكن يوسف عبد العزيز احتجزها في مركز الشرطة ووجه لها من السباب والشتائم ما تعف الأذن عن سماعه، وحينما أصر أهل تالا على دفن شهدائهم وخرجت الجنازة ضربت بالقنابل المسيلة للدموع، وتفرق الناس عن النعوش فترة وقد بقيت الجنازة من التاسعة صباحا وحتى صلاة العصر في الشارع حتى تمكن الأهالي من دفن الشهداء، في هذا اليوم اشتدت المواجهات والمداهمات في الليل وقد أدت تلك المواجهات في تالا الى اشتعال القصرين.
في 12 يناير قتل آخر الشهداء في تالا ويدعى وجدي السايحي وعندها حاصر الأهالي مقر الشرطة فما كان من قيادة الشرطة الا أن قامت بحرق مبنى الشرطة للتغطية على الوثائق التي يمكن أن تدينهم ثم انسحبوا تماما من المدينة حيث لم تعد الشرطة الى مدينة تالا منذ أن خرجت في 12 يناير وحتى الآن رغم مرور ستة أشهر غير أني حينما ذهبت الى القصرين وجدت وضعا آخر.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
عمرو عز

عمرو عز (3) : تأثير خطاب مبارك العاطفي في الثوار وعودتهم للميدان بسبب موقعة الجمل

التالي
عمرو عز

عمرو عز (4) : أجواء خطاب مبارك الأخير وإشارات نجاح ثورة 25 يناير

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share