حــــــوارات في تــونــس «4»

«ارفع رأسك .. أنت في عاصمة الشهداء».. على مدخل مدينة القصرين كانت هذه اللافتة تستقبل الزائرين ، وفي ميدان صغير بين أبرز أحيائها فقرا كان هناك نصب يضم قائمة بـ 22 شهيدا سقطوا خلال ثورة الياسمين في تونس أصغرهم طفلة عمرها ستة أشهر أصابتها رصاصة غادرة وهي على كتف أمها ، في جانب آخر من المدينة رأيت لافتة كتب عليها «ان الجبناء لا يصنعون التاريخ» بينما لافتات أخرى كثيرة تطالب الجميع بالحفاظ على الثورة .
على احد المقاهي التقيت مع سمير الرابحي أحد ناشطي اليسار الذين في المدينة التي تقع في الوسط الغربي لتونس ، وهي عاصمة ولاية القصرين ، حينما سألته ما الذي تتميز به القصرين عن باقي الولايات التونسية جاءت اجابته غريبة وصادمة الى حد بعيد فقال : «ان ما يميز القصرين عن كل مدن وولايات تونس هو أنها تحتوي على أكبر نسبة من الفقر والبطالة في البلاد» كنت أكتب فرفعت رأسي وأنا أنظر اليه بتعجب لكنه واصل قائلا : «كما أن بها أدنى نسبة تفوق دراسي ، وأعلى نسبة أمية ، وأعلى نسبة تسرب ومغادرة للمدارس الابتدائية ، وبها أعلى نسبة من الجريمة بدءا من الجنح الصغيرة وحتى أفظع الجرائم ، والقصرين هنا ليست بدعا ولكنها تشترك في كل هذه الخصائص مع مدن الشريط الغربي ، حيث تتركز الاستثمارات والمشروعات في الشريط الشرقي الساحلي الذي يستحوذ على أكثر من ثمانين في المائة من الاستثمارات والمشروعات بينما يوزع الفتات على باقي ولايات تونس من هنا تكون هذه المدن هي الأعنف دائما في كل المواجهات التي تحدث مع النظام ، فأحداث الخبز التي وقعت في تونس في نهاية ديسمبر وبداية يناير عامي 1983 و1984 كانت الأعنف هنا في القصرين وكذلك أحداث الحوض المنجمي في العام 2008 ، ومع شدة انتفاضة الشعب تكون شدة قمع النظام» .
حينما أحرق البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر الماضي أشعلت النيران التي أحرقت جسده كافة مدن الجنوب الأوسط والشريط الغربي وكانت القصرين من تلك المدن التي اشتعلت بها الانتفاضة غير أن عودة الدراسة في 4 يناير 2011 كانت الشرارة التي لم تخمد حتى رحل بن علي ، ومن أكثر الأيام دموية في القصرين كانت أيام 8 و9 و10 يناير وقد كانت النيران في تالا القريبة مشتعلة بل يؤكد كثيرون أن نيران تالا هي التي أشعلت ثورة الفقراء والمهمشين في القصرين ، هناك اختلاف في عدد الشهداء حيث يؤكد بعض الشهود أن عددهم في القصرين يبلغ 38 شهيدا وليس 22 لأن كثيرا من الأهالى كانوا يدفنون أبناءهم دون تقرير طبي خوفا من النظام .
«الزهور» و «النور» أسماء جميلة لكنها في الواقع ليست كذلك ، فهي أسماء أكثر الأحياء فقرا في مدينة القصرين ، تجولت بهما ورأيت كيف يصنع الفقر الأسى في نفوس الناس ، لازالت الأحياء على حالها لم يتغير شيء الناس كما هم والفقر كما هو ينهش في الناس ويذل كرامتهم وينتقص من رجولتهم ، فالثورة كسرت الخوف وأعطت الناس الحرية لكنها لم تعطهم الخبز بعد ، والثورة أمامها سنوات حتى تغير الأوضاع البائسة لهؤلاء الناس وهذه الأماكن ، كان يبدو على أني غريب رغم أني كنت أخفي معظم وجهي حتى لا يتعرف عليّ الناس ، لكن الجميع كان يتلفت نحوي أنا الغريب في هذه الأحياء الغريبة ، قال مرافقي : «بعد المغرب لا تستطيع المشي في هذه المناطق ان لم تكن من أهلها ، فكل أشكال الأجرام تمارس في ظل البطالة القاتلة وأي غريب يكون هدفا » .
لازال الشعب ينتظر ما طالب به خلال أيام الثورة «شغل ـ حرية ـ كرامة وطنية» ولازال ينتظر ما نادى به «خبز وماء بن علي لا» «محاكمة الطرابلسية .. اللي سرقوا الميزانية» «يازين صبرك صبرك القصرين تحفر قبرك» ، وكما فعل كل الزعماء العرب الذين قامت ثورات في بلادهم كان بن علي سباقا في ظهوره المتأخر على الشعب ليعد بحزمة اصلاحات ربما كان الشعب يقبلها في بداية تحركه وليس بعدما سالت دماء أبنائه وموت الخوف في نفوس ، فقد كان سقف المطالب خلال أيام الثورة يزداد يوما بعد يوم وربما ساعة بعد ساعة ، فمطالب المساء كانت في كثير من الأحيان أكبر من مطالب الصباح التي لو تحققت في الصباح لخف الضغط وتراجع بعض الناس الناس في الصباح كانوا يقولون «خبز وماء» وفي المساء يضيفون اليها» بن علي لا»، لكن لأن سنة الله قائمة في عدم توفيق الطغاة والظالمين لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، فقد كان خطاب زين العابدين بن علي للشعب في 13 يناير والشهير بخطاب «فهمتكم» خطابا متأخرا الى حد بعيد ، فالرجل لم يفهم شعبه الا بعد ثلاثة وعشرين عاما من القهر والاستبداد و لم يفهم الدرس الا بعد فوات الأوان ، وكان عليه أن يفر هاربا من بلاده في الرابع عشر من يناير بعدما قرر التوانسة في بعض المدن ومنها القصرين الخروج بعد الخطاب مباشرة رغم حظر التجول في أنحاء البلاد للتظاهر ضد الخطاب وضد بن علي والمطالبة بسقوطه ، في تونس العاصمة مشيت حيث مشى الناس وجلست حيث جلسوا والتقيت مع بعض من اشتهرت صورهم على شاشات التلفزة يقولون «بن علي هرب» أو «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية» رووا لي بدموعهم أيام الثورة التي أشعلت فتيل الثورات في العالم العربي ، لكن الخوف القائم الآن في كل من مصر وتونس هو : هل سيجني الشعب ثمار ثورته أم يسرقها اللصوص ؟.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
عمرو عز

عمرو عز (4) : أجواء خطاب مبارك الأخير وإشارات نجاح ثورة 25 يناير

التالي

ميدان التحرير وفزاعة الإسلاميين

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share