معركة طرابلس «1 »

مسحت دموعها وقالت لي: كنت أود أن يكون أبي شاهدا على هذا النصر، لقد ظلمه القذافي طوال سنوات حكمه ومات مقهورا، وكنت أود أن يشهد معنا هذه الفرحة.. هكذا تحدثت الي احدى السيدات في العاصمة الليبية طرابلس بينما كانت تضم ابنتها الصغيرة التي ارتدت حلة زاهية احتفالا بالنصر في جمع حضره المئات من أبناء طرابلس في واحدة من الاحتفالات التي أقيمت في المدينة ابتهاجا بسقوط نظام معمر القذافي وتحرير طرابلس من هيمنة نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من الفساد والاستبداد، وحينما رويت القصة لاحد قادة الثوار حينما لقيته بعد ذلك ترقرقت الدموع في عينيه هو الآخر وقال وهو يمسحها وأنا أيضا كنت أتمنى أن يكون أبي شاهدا على هذه اللحظة التاريخية لقد مات مقهورا مظلوما من القذافي هكذا كان أهل طرابلس بين البهجة والدموع بعد ستة أشهر من الترتيب لانتفاضتهم التي وقعت في العشرين من أغسطس الموافق العشرين من رمضان الموافق لذكرى فتح مكة، تلك الانتفاضة التي خططوا لها بعناية على مدى شهور الثورة، واثنين وأربعين عاما من حكم القذافي أعادهم فيها وأعاد فيها بلادهم الى عصر ما قبل التاريخ.
وقد سعيت طوال أيام عديدة من خلال الاستماع الى كثيرين ممن شاركوا في معركة طرابلس سواء من داخلها أو من خارجها للتعرف على الكيفية التي سقطت بها العاصمة الليبية في أيدي الثوار لاسيما وأن معالم معركة طرابلس لم تعرف بعد على كامل حقيقتها في ظل التعتيم الاعلامي الهائل الذي كان مفروضا على المدينة وفي ظل أن الثوار كانوا يعملون تحت الارض في سرية تامة ووفق خلايا عنقودية حتى لا تكشف تحركاتهم لانهم كانوا يدركون جيدا أن النظام سوف يسعى للابقاء على طرابلس بكل قوته حتى اللحظة الاخيرة لان سقوط طرابلس معناه سقوط النظام وهذا ما حدث بالفعل، اذن لم يكن سقوط طرابلس في أيدي الثوار عفويا ولكنه استغرق فترة طويلة من الاعداد والتجهيز وقد استشهد المئات من أبناء طرابلس خلال فترة الاعداد و المواجهات التي بدأت مباشرة مع اندلاع الثورة في الخامس عشر من فبراير الماضي في بنغازي.
ففي الوقت الذي نجحت فيه الثورة التونسية في اسقاط زين العابدين بن علي بينما كان حسني مبارك على وشك السقوط اجتمع عدد من أبناء طرابلس على عشاء في بيت أحدهم في التاسع من فبراير وقرروا البحث في مستقبل ليبيا في ظل ما شهدته تونس وما تشهده مصر وما يشهده الشارع الليبي من تململ وغضب من النظام، وتوالت الاجتماعات حتى اندلعت الشرارة الاولى للثورة في بنغازي فواكبتها الانطلاقة عفوية في طرابلس لكنها لم تظهر بسبب القبضة الامنية القوية للنظام والتعتيم المتعمد على كل ما يحدث في المدينة. في هذه الاثناء قررت المجموعة التي التقت في التاسع من فبراير أن تلتقي مرة أخرى وأن توسع قاعدتها حتى زاد عددهم عن العشرين شخصا بين مهندسين وأساتذة جامعات وعسكريين سابقين ورجال أعمال وشكلوا تنظيما سريا عرف باسم ائتلاف ثورة 17 فبراير ، وبينما كانت أفكارهم تتبلور تمكن ثوار بنغازي من السيطرة عليها في العشرين من فبراير بينما خرج سيف الاسلام نجل القذافي الذي كان يعده أبوه لخلافته بالظهور على شاشة التليفزيون الليبي يتهدد الليبيين ويتوعدهم، فخرج أهل طرابلس منتفضين الى الشوارع بشكل عفوي مباشرة بعد الخطاب الذي ألقاه سيف غاضبين ومرددين هتافات ضد النظام الفاسد المستبد الذي يحكمهم ، حتى تحولت شوارع طرابلس الى تجمعات صغيرة غاضبة هنا وهناك، والتقت الجموع في ساحة الشهداء التي كانت تعرف بالساحة الخضراء وكادت تحتلها ليتكرر مشهد ميدان التحرير في القاهرة مما دفع القوات الامنية التابعة للقذافي أن تطلق الرصاص بشكل مباشر على المتظاهرين بالاسلحة الرشاشة وقد أبلغني بعض الاطباء أن بعض الشهداء وصلوا للمستشفيات وأجسادهم بها رصاص رشاشات ثقيلة بعضها من مدفعية مضادة للطائرات، وقد وصلت المستشفيات ما يزيد على مائتي جثة والبعض أخبرني بأن الشهداء في تلك الليلة بلغ ثلاثمائة شهيد، غير أن كثيرا منهم لا يزالون في عداد المفقودين حيث قامت القوات الامنية بأخذ الجثث من المستشفيات مباشرة ولا يعرف أحد مصيرها غير أنه يتم الآن كل يوم اكتشاف مقابر جماعية في أنحاء متفرقة من المدينة، وقد أبلغني مصطفى نوح وهو المنسق العسكري لائتلاف السابع عشر من فبراير وعضو المجلس العسكري لطرابلس ورئيس العمليات والضبط الامني في اللجنة الامنية العليا المسؤولة عن أمن طرابلس بعد التحرير أن بعض الضباط الموالين للقذافي والذين قبض عليهم بعد نجاح الثورة اعترفوا بأنهم كانوا يأخذون جثث الشهداء الذين سقطوا في تلك الليلة وبعض الذين سقطوا بعد ذلك الى البحر حيث كانوا يلقونهم في الاماكن التي تتواجد فيها أسماك القرش والحيتان لتكون طعاما لهم، كما تم اكتشاف عشرات الجثث لشهداء كانت مودعة في بعض الثلاجات وجثث أخرى في مقابر حفرت على عجل على شاطئ البحر، كما أن بعض المناطق في طرابلس تحولت الى برك من الدماء حتى أن السلطات الغاشمة قامت بتحريك كثير من سيارات المطافئ لهذه الاحياء والشوارع لازالة آثار الدماء التي غطتها في تلك الليلة، هذه الوسائل القمعية غير الانسانية والقائمة على احتقار الانسان الليبي حيا وميتا من قبل نظام القذافي الفاسد زرعت الخوف والرعب في نفوس أهل طرابلس من الوهلة الاولى غير أن ذلك لم يفت في عضد أهل المدينة وقرر القائمون على ائتلاف السابع عشر من فبراير مع تجمعات أخرى كثيرة داخل المدينة أن يعدوا الخطط والمواجهات بشكل سري ودقيق حتى يتمكنوا من مواجهة هذا القمع واسقاط المدينة من داخلها مع التنسيق الكامل مع الثوار من خارج المدينة للإطباق عليها غير أن الامر لم يكن سهلا على الاطلاق وكان يستدعي عملا واسعا يقوم على التخطيط والسرية.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

الأمن .. ثم الأمن .. ثم الأمن

التالي
ممدوح حمزة

ممدوح حمزة (1) : مظاهر الفساد في مشروعات نظام مبارك..وسجنه فى بالمارش

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share