حكـــومة المنطفــــئين

حينما نجحت الثورة المصرية في أولى خطواتها بخلع حسني مبارك تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد السلطة في البلاد، ودارت حوارات ونقاشات مع التيارات السياسية المختلفة التى شاركت في صناعة الثورة، وبعد ترشيحات ومداولات تم تكليف الدكتور عصام شرف عضو لجنة السياسات السابق في الحزب الوطني المنحل ووزير النقل السابق بتشكيل حكومة جديدة في البلاد، وتم تسمية عصام شرف على أنه رئيس حكومة الثورة، لكن الحكومة التى شكلت لم يكن لها علاقة بالثورة من قريب أو بعيد، فالدكتور شرف فرض عليه من فرض من الوزراء ومن جاء بهم لم يكونوا سوى امتداد في معظمهم لرجال الحزب الوطني الذين كان يطلق عليهم الفلول حتى أن عدد أعضاء الحكومة الذين كانوا ينتمون للجنة السياسات في الحزب الوطني المنحل كانوا أكثر من غيرهم، ورغم دماثة أخلاق الدكتور شرف وأدبه الجم الرفيع إلا أن الشعوب لا تحكم بأخلاق الحكام وأدبهم وطيبة قلوبهم وإنما بأفعالهم وقدرتهم على تحقيق مصالح الناس ورعاية شؤون البلاد في مرحلة دقيقة تمر بها مصر، وقد كان الدكتور شرف شأنه شأن المجلس العسكري في بداية توليه السلطة يجلس مع الناس ويستمع إليهم ولكن في النهاية كانت الأمور تسير في طريق آخر، وظهر الدكتور شرف عدة مرات يخاطب الناس وليته لم يفعل، لأن الزعماء والحكام و المسؤولين إذا لم يكن لهم الحضور الكافي للحديث إلى الناس فالأولى بهم أن يبقوا وراء الحجب، ويبدو أنه قرر أن يفعل ذلك فقد اختفى وأصبح وراء الحجاب هو ومعظم وزرائه وحكومته وبدا كأنه لا حول له ولاقوة ولا لأي من رجال حكومته لأن زمام الأمور بيد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي حاول أن يستخدم الدكتور يحيى الجمل كنائب لرئيس الحكومة المنطفئ ليمرر من خلاله ما يريد من قوانين لكن الجمل في النهاية رحل، وجاء مكانه الدكتور علي السلمي ليقوم بدور مشابه في فترة هامة وخطيرة تمر بها البلاد، ففي الوقت الذي يتهيأ فيه الشعب لأول انتخابات حرة ونزيهة كما أعلن تجري في البلاد منذ استيلاء العسكر على السلطة في مصر عام 1952 فوجئ الشعب بوثيقة علي السلمي التي تريد أن تضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فوق الدولة والقانون والشعب وكل شيء وتنصبه دولة داخل الدولة بكل اختصاصاتها وميزانياتها بشكل لم يحدث في مصر إلا في عهد المماليك، والعجيب أن فلول الحزب الوطني الذين اجتمعوا حول السلمي، كما وصفهم حافظ أبوسعدة حينما خرج منسحبا من الاجتماع المهزلة الذي عقده السلمي في دار الأوبرا وكأنه يسعى لإخراج مسرحية هزيلة وسط جمهور مزيف حولوا الأمر إلى أنه خلاف بين الاسلاميين والليبراليين، لقد أعاد السلمي الدور الذي لعبه سليمان حافظ مع العسكر بعد انقلاب يوليو 1952 حينما كان يفصل القوانين لهم على هواهم فأسقط الدستور وكافة القوانين وعاش الشعب المصري ستين عاما تحت القهر والفساد مستخدما أناسا كان يطلق عليهم ممسحة النظام حيث كانوا يظهرون ليدلسوا على الشعب مستخدمين الحجج والقوانين فتلتصق بهم أوساخ النظام ثم ينسحبون من الحياة يعيشون بين الخزي والعار باقي حياتهم لكن الشعب قام بثورته حتى يحرر مصر من كل هؤلاء وتصبح السيادة للشعب وأن يكون الناس سواسية أمام القانون.
إن ما يؤسف له هو أن الذين ظن الشعب أنهم يمثلون حكومة ثورته يصبح أداؤهم في النهاية أداء كومبارس منطفئين ليس فيهم نجم واحد يضيء، وكلما سعى أحدهم لكي يبرز ويضوي مثل علي السلمي لا يكون أداؤه نجوميا ولكن يصبح كارثيا مثل الشهاب الذي يشتعل ليحترق، فالرجل الذي يتحدث الكثيرون عن نزاهته تماما مثل عصام شرف سيتحول هو وشرف في النهاية إلى ما تحول إليه سليمان حافظ وآلاف مؤلفة مثلهم مروا على مصر طوال العقود الماضية، وهكذا تكون نهايات الناس الذين يظنون أنهم يحسنون صنعا لكن عملهم في النهاية لا يكون إلا كسراب بقيعة ويقضون باقي أعمارهم يحملون عار أيام حادوا فيها عن تحقيق مصالح الناس وكرسوا جهدهم لتحقيق مصالح فئة قليلة على حساب فئة كثيرة وهي الشعب الذي ضحى وثار.
إن اختزال فضيحة وثيقة علي السلمي على أنها صراع بين الاسلاميين والليبراليين وليست صراعا على سيادة شعب ومستقبل ثورة هي نوع من التدليس لا يقل عن التدليس الذي يمارس على هذا الشعب منذ قيام ثورته من قبل فئات تريد اختطافها واختزالها، يجب أن يعرف الجميع أن سيادة الشعب هي الاساس وأن يكون الناس كلهم سواسية أمام القانون وإلا فإن دماء الشهداء التي سالت والشعب الذي ضحى أصبحت هباء منثورا وإن هذا العبث في النهاية لن يكون مصيره سوى مزبلة التاريخ، فالشعب الذي قام بثورته مازال مستعدا لكي يحميها حتى تحقق أهدافها وعلى رأسها إسقاط النظام الذي لم يسقط بعد.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
أسامه ياسين

أسامة ياسين (1) : دور الإخوان المسلمين في الحراك السياسي قبل ثورة يناير

التالي
أسامه ياسين

أسامة ياسين (2) : تحرك الإخوان نحو ميدان التحرير .. وعلاقتهم مع الأقباط .. وحقيقة سرقتهم للثورة

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share