المهمة الصعبة لحركة النهضة في تونس

لأول مرة في تاريخ تونس الحديث ينعقد برلمان منتخب بحرية كاملة من الشعب التونسي، الغلبة فيه لحزب النهضة الاسلامي الذي كان مطاردا في عهدي بورقيبية وبن علي ومعظم أعضائه، إما في السجون أو مطاردون في أصقاع الدنيا، لكن المجلس في مجموعه يمثل معظم أطياف الشعب التونسي بتوجهاته المختلفة، حضرت الجلسة الأولى للمجلس بعدما بدأ دورته العادية وذلك لمناقشة الدستور المؤقت الذي يحدد صلاحيات المجلس وصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس والسلطة القضائية والمحليات وغيرها من الأمور الأساسية للدولة، ليس من طبعي حضور مثل هذه الجلسات بنقاشاتها المطولة والمملة أحيانا ولم أحضر في حياتي سوى جلسات معدودة في مجالس نيابية مختلفة بغرض التعرف على طريقة عمل المجالس التشريعية في الدول المختلفة، فقد حضرت جلسة أو اثنتين للكونغرس الأميركي خلال زيارات سابقة للعاصمة الأميركية واشنطن، وجلسات استماع لبعض اللجان وحضرت جلسات لبرلمانات أخرى في دول مختلفة منها أوروبية وعربية فقط لأتعرف على كيفية إدارة الجلسات وكيف يعمل نواب الشعب في تلك الدول، لكن حضور الجلسة الأولى للمجلس الوطني التأسيسي في تونس كان أمرا تاريخيا بالنسبة لي في ظل دراستي للتاريخ التونسي الحديث ومتابعتي لعهد القهر والظلم والاستبداد الذي صُنع على يد بورقيبة ومن بعده بن علي، لم أنشغل بالنقاشات بقدر انشغالي بأمور أخرى عديدة، كان من أهمها النسيج الذي أفرزته الانتخابات، كما ان النواب جميعا بكل أطيافهم يتكلمون اللغة العربية بطلاقة حتى المتفرنسين منهم، كما أن النواب الذين كان معظمهم يدخل البرلمان للمرة الأولى لم يختلفوا كثيرا عن نواب آخرين مخضرمين في الدول التي تمارس التجربة البرلمانية منذ عقود، فقد لاحظت أن بعضهم منشغل بـ«الفيسبوك» من على هاتفه النقال أو من خلال أجهزة الـ«آي باد» أو «الكمبيوتر» وآخرين بدوا من طول الجلسات مجهدين يميلون الى النعاس وآخرين منشغلين بالحديث مع من بجوارهم مع وجود نواب جادين ولديهم الوعي الكافي في أطروحاتهم مع آخرين يتكلمون طويلا ولا يعرف احد ماذا يريدون بالضبط، وآخرين وربما الأغلبية كانت منشغلة بتسجيل مواقف تليفزيونية لأن الجلسات كلها كانت تبث على الهواء مباشرة، وكلها ممارسات تتم في أغلب البرلمانات، وتعبر عن الطيف الواسع لتركيبة الشعوب.
الجلسات التي استمرت طيلة الاسبوع الماضي وكانت تبدأ من الصباح وتمتد الى منتصف الليل مع الاستراحات أظهرت رغبة كبيرة في إتمام مشروع الدستور المؤقت مرورا الى الدستور الشامل الذي أسس المجلس التشريعي من أجله، فالمجلس مرهون به بالدرجة الأولى بوضع الدستور لكنه ايضا سيقوم بتسيير أمور البلاد بعد ستين عاما من الفساد والاستبداد، والعجيب في الأمر ان التوافق بين النواب وصل الى الانتقال من النظام الرئاسي الاحادي الذي كان يضع كل مقاليد البلاد في يد رجل واحد وهو النظام الذي أرساه الحبيب بورقيبة ورسخه زين العابدين بن علي إلى نظام برلماني يضع معظم السلطات والصلاحيات في يد رئيس الحكومة، والأعجب أن يكون رئيس الدولة الذي توافقت عليه الأغلبية هو المنصف المرزوقي الرجل الذي بقي في تحد مع زين العابدين بن علي اكثر من عشرين عاما ووصل به الحال في النهاية ان يعيش طريدا ما يقرب من عقد خارج تونس بعدما فصله بن علي من الجامعة وضيق عليه الرزق والحياة، ليعود من المنفى ليتولى مقاليد السلطة في البلاد خلفا لزين العابدين بن علي الذي هرب خارج البلاد، بعدما انتفض عليه الشعب في شهر يناير الماضي، أما رئيس الحكومة فهو أكثر النواب حياة داخل سجون بن علي الأمين العام لحركة النهضة حمادي الجبالي الذي قضى معظم سنوات حكم بن علي داخل السجون، خرج ليصبح رئيسا للحكومة في مشهد غير واقعي بالمرة، لكنها أقدار الله وسنن التاريخ حينما تريد الشعوب أن تحيا كما قدر الله لها.
المشهد الأكثر إثارة في تونس هو التوافق العجيب بين التيار العلماني الذي يقوده المنصف المرزوقي والمتفرنس إن كان تعبيرنا دقيقا الذي يقوده مصطفى بن جعفر والتيار الإسلامي الذي يقوده راشد الغنوشي وتوافق الثلاثة على إقامة نظام ديمقراطي يسمح بالتوافق بين المتناقضين في الأفكار والمشارب والرؤى، وحينما شغلني السؤال ووجهته أجابني الجميع بأنهم وضعوا مصلحة الشعب التونسي ومطالب الإنسان التونسي واحتياجاته أولا ومن ثم وقع التوافق والتراضي، كما أن الجميع لا يميل للتطرف في الأفكار وهو الذي يصنع العداوات حتى أن المنصف المرزوقي في حواري معه وجه نداء للعلمانيين والإسلاميين في مصر والدول التي تقف على اعتاب الديمقراطية بعد الثورات التي قامت بها الشعوب أن تتوافق على ما توافق عليه التوانسة حتى يتجنبوا الدخول في صراعات ليسوا هم بحاجة اليها الآن.
مشهد آخر لا نستطيع أن نغفله هو أن الشعب التونسي قد خرج من ضيق الديكتاتورية إلى سعة الحرية والديمقراطية وإلى سعة الحياة، غير أن الناس الذين تحملوا الديكتاتورية ستين عاما لا يريدون الصبر ستة أشهر حتى يبدأوا في الحصول على مقدمات ما تفيض به الديمقراطية، ويرى الإسلاميون الذين يشكلون الأغلبية في البرلمان والحكومة أن اليساريين المتطرفين الذين يسيطرون على وسائل الإعلام ويجيدون استخدام آليات الإضرابات والاحتجاجات يريدون أن يفسدوا على الشعب فرحته بالديمقراطية عبر الهجوم على المشروع الديمقراطي بسبب وجود الإسلاميين في مقدمة المشهد، بينما يرى اليساريون أن الإسلاميين يهددون المشروع المدني للدولة والمساواة بين الرجل والمرأة عبر العبث بالحقوق التي منحها بورقيبة للمرأة، غير أن الإسلاميين يقولون إنه في الوقت الذي لا يمثل العلمانيين فيه في البرلمان سوى عدد محدود جدا من النساء فإن أكثر من أربعين سيدة يمثلون حزب النهضة الإسلامي في البرلمان مما يعني أن النهضة تعرف حقوق المرأة وكيف تضعها في المكانة الصحيحة وليست المبتذلة التي يضعها فيها اليسار المتطرف.
المشهد في تونس بقدر ما هو مبشر بقدر ما هو مقلق، فالبلاد تعيش أزمة اقتصادية خانقة ونسبة البطالة بها ستكون سيفا مشهرا في وجه كل من يحكمها والأفواه الجائعة والشعب الذي وضع آماله في حزب النهضة والأحزاب العلمانية المعتدلة لن ينتظر طويلا حتى يحقق أحلامه الذي سبق وأن دمرها بن علي ومن قبله بورقيبة، وإن نجاح حركة النهضة في تحقيق أولى خطوات الاستقرار وتحقيق آمال الناس ستكون خطوة لها ما بعدها أما إذا أخفقت النهضة فإن هذا يعني أن الشعب التونسي الذي وضع ثقته في النهضة لن يطول به الوقت حتى يغير خياراته إلى من يحقق له آماله.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
أسامه ياسين

أسامة ياسين (6) : سقوط الشهداء برصاص القناصة.. ومليونية الرحيل

التالي
أسامه ياسين

أسامة ياسين (7) : مفاوضات فض الاعتصام .. وحوار الإخوان مع اللواء عمر سليمان

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share