مشاهد خلع الطغاة فى الربيع العربي

حينما يسطر التاريخ سير الأولين مهما طال سردها تختزل السيرة على طولها أو قصرها في النهاية على مشهد ختامي يبقى هو الصورة الباقية في التاريخ، ولم يكن هذا في السرد التاريخي فقط وانما كذلك في القصص القرآني بكل ما فيه من غنى وعبر جعل لكل قصة من القصص القرآني صورة باقية، فعلى سبيل المثال قصة فرعون التي أخذت الجزء الأكبر من القصص القرآني وأعطت صورة شاملة عن الطاغية المستبد بخصالة وبطانته وعتوه وزهوه وكفره وعناده وكل صفات الطغيان والفساد، اختزلت في المشهد الأخير للفرعون وهو ينادي حينما أطبق عليه الله البحر «آمنت أنه لا اله الا الذي آمنت به بنو اسرائيل» وبقي مشهده والبحر يطبق عليه مع جنوده هو المشهد الباقي في التاريخ، كذلك مشهد قارون الذي بقي هو مشهد الخسف «فخسفنا به وبداره الأرض» ومشهد قوم لوط أن جعل الله عاليها سافلها، وما كان المثل القرآني الا للدلالة على أن البشر يكررون الأخطاء وتتكرر المشاهد ولا يبقى الا المشهد الأخير كعقاب دنيوي رادع لكل من كان له قلب او مثقال حبة من خردل من ايمان.
فحسني مبارك حكم مصر ثلاثين عاما بكل ما فيها من زهو وطغيان وفساد وعتو وزهو وقصور ومواكب وزينة وتفاخر بالأموال والأولاد ولقاءات مع كبراء الأرض وسادتها ومشى على السجاد الأحمر في كل قارة، كل ذلك سوف يختزل في التاريخ الى صورة مبارك وهو في القفص ذليلا كسيرا مع ولديه اللذين أذل بهما الخلق وجعلاه يضع مصر وشعبها تحت أقدامه في النهاية وضعه الشعب تحت قدميه، ولن يبقى منه للتاريخ بعد عام أو عشرة أومائة عام سوى هذه الصورة الذليلة، ولا أنسى تعليق أحد الصحف المصرية على صفحتها الأولى حينما ظهر مبارك مع ولديه ذليلا في القفص أن أخذت الآية الكريمة التي وصف الله بها نهاية فرعون «لتكون لمن خلفك آية».
أما زين العابدين بن علي طاغية تونس الذي أعماه كل شيء وجعل زوجته وأهلها يتحكمون في الشعب وكان يقضي سحابة نهاره في التفهات، وكان لا يحسن الكلام ولم يظهر متحدثا طوال سنوات حكمه سوي مرات محدودة حتى أنه حينما زار الولايات المتحدة خصص له الرئيس الأميركي ثلاثين دقيقة للقاء الا أن كل ما بينهما انتهى في عشر دقائق، هذا الرجل الذي رهن مقدرات تونس وشعبها بيد امرأته وطغمة الفاسدين من حوله لن يبقى منه في التاريخ الا وجهه المكفهر وعباراته المرتعشة وهو يحاول أن يحمي عرشه المهترئ من السقوط «فهمتكم… فهمتكم» ثم هروبه الجبان من بلده وشعبه.
أما رئيس اليمن المخلوع برفق علي عبد الله صالح الذي لم يترك شيئا لم يؤذ به شعب اليمن ذي التاريخ العريق والحكمة القديمة، فلن يبقى منه للتاريخ سوى وجهه المحترق وهو يخاطب شعبه مكابرا رغم ما بلاه الله به لتبقى تلك الصورة مثل صورة مبارك في القفص عبرة لمن كان له قلب.
أما طاغية الطغاة معمر القذافي، فبعد أربعين عاما من الطغيان والفساد والكفر بآيات الله ونعمه والتطاول على كل المقدسات فلن يبقى منه الا صورة الشيطان التي ظهر بها وهو شارد بين الصبيان يتلاعبون به ويعبثون بكل شيء فيه كما عبث بالشعب الليبي أربعين عاما وليذيقوه في دقائق حياته الأخيرة بعضا من الكأس التي سقى منها واحدا من أطيب شعوب الأرض ويظهر هذا الطاغية الذي قال لشعبه بعد أربعين عاما من أنتم؟ وهو يستغيث ويستنجد بالصبيان الذين جعلوه أضحوكة في التاريخ أن يرحموه قبل أن يردوه قتيلا ذليلا، ويدفن ليلا وسرا في مكان لم يعد يعرفه حتى الذين دفنوه وقد أبلغني بعض من علموا قصة دفنه أن الذين كلفوا بدفنه مشوا في موكب في الصحراء حتى تعبوا من المشي ساعات وساعات ثم وقفوا في مكان فحفروا حفرة ثم ألقوه فيها هو وابنه وأبوبكر يونس ثم أهالوا عليهم التراب بمساواة الأرض وكانت الرياح كفيلة قبل أن يظهر الصباح بتسوية الرمال كلها حتى لا يعرفوا هم مكانه بعد ذلك.
هذه هي الصور التى ستبقى للتاريخ من هؤلاء لكن السؤال الذي يتكرر هو لماذا لا يعتبر غيرهم بمصيرهم ويحاولون ألا يصلوا لنفس المصير؟ والجواب بسيط، فحينما يطمس الله على القلوب تعمى العيون وتصم الآذان وتسري أقدار الله حتى ترسم الصورة الأخيرة لكل طاغية في التاريخ جزاء بما قدم لشعبه فدعوات المظلومين لا تذهب هباء حتى وان تأخرت الاستجابة.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

أبعاد التدخل الروسي فى سوريا

التالي

الفشل الذريع لحكومة الجنزوري

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share