أبو عمر المصري القصة الحقيقية وتلفيقات سي آي إيه (1-3)

أبو عمر المصري

تلقيت دعوة لم أتمكن من تلبيتها لحضور افتتاح فيلم «القاعدة.. القاعدة» الذى بدأ عرضه فى دور السينما فى إيطاليا يوم الخميس الماضى 18 أكتوبر الذى أنتجه المحامى الإيطالى لوكا باوتشو الذى تولى قضية حسن أسامة مصطفى نصر الإمام المصرى المشهور باسم أبوعمر المصرى الذى اختطفته عناصر السى آى إيه فى مدينة ميلانو الإيطالية فى وضح النهار ونقلته إلى مصر حيث ذاق العذاب الأليم على يد السلطات الأمنية المصرية لمدة أربع سنوات، وتدور قصة الفيلم حول التلفيقات التى قامت بها المخابرات المركزية الأمريكية (سى آى إيه) لكثير من العرب والمسلمين المقيمين فى الغرب وعمليات التعذيب والتجاوزات القانونية والتعاون الذى جرى بين أجهزة المخابرات الغربية والعربية والسى آى إيه وقد جاء الفيلم بعد الكتاب الذى أصدره المدعى العام الإيطالى الأكثر جرأة أرماندو سباتارو تحت عنوان: «قصة مافيا الإرهاب وإهانة أسرار الدولة «وهو الذى تحدى الحكومة الإيطالية والحكومة الأمريكية طوال عدة سنوات وأصر على تحويل 23 من عملاء السى آى إيه الذين اختطفوا أبوعمر المصرى فى عام 2003 إلى القضاء حيث تمت إجراءات محاكماتهم طوال السنوات الماضية وانتهت فى 18 سبتمبر الماضى 2012 بتأييد محكمة النقض الإيطالية للحكم الذى صدر بحقهم بالسجن الغيابى لمدد تترواح بين 7 و9 سنوات بعد إدانتهم بخطف أبوعمر المصرى وهى المرة الأولى فى تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سى آى إيه) التى يتعرض فيها عملاؤها لمثل هذه المحاكمة وفى دولة تعتبر صديقة للولايات المتحدة، والفضيحة لم تكن سوى حلقة من سلسلة إخفاقات متتابعة تعرضت لها الوكالة بدأت بأحداث الحادى عشر من سبتمبر وكان آخرها إخفاقها الذى أدى مقتل السفير الأمريكى فى بنغازى فى الشهر الماضى.

اعتقل المصرى فى مقدونيا وتم نقله إلى سجن سرى فى أفغانستان ذاق فيه ألواناً شتى من التعذيب

قصة المحاكمة جاءت بعد قرار القاضى الإيطالى فى مدينة ميلانو يوم الجمعة 16 فبراير من العام 2007 بإحالة الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإيطالية نيكولو بلارى وخمسة إيطاليين آخرين علاوة على ثلاثة وعشرين عميلاً تابعين لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سى آى إيه» بتهمة خطف الإمام المصرى السابق لمسجد ميلانو حسن مصطفى أسامة نصر المشهور باسم أبوعمر المصرى من أحد شوارع ميلانو فى 17 فبراير 2003 وقد شكل القرار فى حينها ضربة قاصمة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سى آى إيه» أكبر جهاز استخباراتى لأكبر دولة فى العالم وأكثرها ارتكاباً للجرائم وتجاوزاً للقوانين حسبما يوصف من كثير من المراقبين، وقد جاء القرار فى أعقاب قرار أصدرته سلطات الادعاء الألمانية فى 31 يناير 2007 باعتقال ثلاثة عشر من عملاء السى آى إيه لهم علاقة باختطاف المواطن الألمانى من أصل لبنانى خالد المصرى فى العام 2004، حيث اعتقل المصرى فى مقدونيا وتم نقله إلى سجن سرى فى أفغانستان ذاق فيه ألواناً شتى من التعذيب قبل أن يطلق سراحه ويلقى فى إحدى المناطق النائية، وكان المدعون الألمان قد قالوا سابقاً إنهم تلقوا من محققين إسبان أسماء عشرين من العملاء السريين الأمريكيين للسى آى إيه متهمين بالتورط فى عملية الاختطاف التى جرت فى عام 2004.

بداية محاكمة هؤلاء العملاء جاءت فى ظل إدانة برلمان الاتحاد الأوروبى فى 14 فبراير من عام 2007 لأربع عشرة دولة أوروبية شاركت فى تسهيل رحلات جوية تقل معتقلين ومختطفين نقلتهم السى آى إيه عبر مطاراتها إلى جوانتانامو أو معتقلات سرية أخرى مجهولة الأماكن، بناء على تحقيقات أجراها رئيس اللجنة القانونية فى البرلمان الأوروبى ديك مارتى الذى أصر على فضح هذه الدول وإدانتها واتهامها بخرق القانون الدولى ومواثيق حقوق الإنسان.

وكانت السلطات المصرية فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك، قد أفرجت قبل ذلك بأيام عن الإمام المصرى حسن مصطفى أسامة نصر بعد أربع سنوات من الاعتقال ذاق خلالها ألواناً مختلفة من التعذيب حتى إنه قال بعد خروجه من السجن إنه تحول إلى أطلال إنسان، وهذا يكشف عن حجم الجرائم التى ارتكبت من قبل سلطات الأمن المصرية فى ذلك الوقت تجاه بشر لا ذنب لهم سوى أن الأمن يريد أن يصنع منهم مجرمين أو يدمر آدميتهم. نكمل غداً

(2)

كنت فى إيطاليا حينما كشفت تفاصيل كثيرة لهذه القضية المثيرة وتابعتها من قرب، حيث أعلن المدعى العام الإيطالى فى قضايا الإرهاب أرماندو سباتاروفى الأول من يونيو من العام 2006 المضى قدماً فى إجراءات محاكمة عملاء السى آى إيه بعدما أصدر أوامر باعتقالهم واتهم وزارتى العدل الأمريكية والمصرية بعدم التعاون الكافى فى التحقيقات، وفى 21 يوليو من العام 2006 طلب الادعاء الإيطالى من وزير العدل مطالبة الولايات المتحدة بتسليم العملاء الستة والعشرين بعدما أضاف إلى المتهمين أربعة آخرين أحدهم يعمل فى قاعدة أفيانو، وبالفعل قام وزير العدل الإيطالى روبرتو كاستيللى بالتوقيع على أوامر الاعتقال، ورغم أن المسئولين قالوا إنها خطوة ضمن الشكليات المعمول بها إلا أنها تجعل رجال الـ«سى آى إيه» المتهمين تحت طائلة الاعتقال فى أى من دول الاتحاد الأوروبى جميعها.

وكانت حكومة رئيس الوزراء آنذاك سيلفيو برلسكونى، قد رفضت طلباً سابقاً من الادعاء الإيطالى للمطالبة بتسليم العملاء، لكن حكومة رومانو برودى التى جاءت بعد بيرلسكونى، ثم أجبرت بعد ذلك على الاستقالة وعاد بيرلسكونى من جديد كان موقفها مناقضاً لموقف حكومة برلسكونى التى كانت موالية تماماً للولايات المتحدة، وفى العشرين من نوفمبر من العام 2006 أصبح الموقف دراماتيكياً حينما اتخذت الحكومة الإيطالية برئاسة رومانو برودى قراراً بإقالة نيكولو بلارى قائد الاستخبارات العسكرية، الذى كان يعد من أقوى رجال الدولة فى عهد برلسكونى، وكذلك الجنرال ماريو مورى قائد الاستخبارات الداخلية، كما أقيل ديل ميسيزى قائد الجهاز المشرف على التنسيق بين جهازى الاستخبارات العسكرية والداخلية، وبحث وقتها توجيه اتهامات لقائد الاستخبارات العسكرية بالتواطؤ مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سى آى إيه» فى اختطاف الإمام المصرى، واعتبرت تلك القرارات فى ذلك الوقت محاولة من الحكومة لحفظ ماء وجهها وضربة قاصمة للمتعاونين الإيطاليين مع الـ«سى آى إيه» ولجهاز الـ«سى آى إيه» نفسه، وقد دفعت هذه الإقالات القضاء الإيطالى لتوجيه الاتهامات رسمياً لرئيس الاستخبارات العسكرية واعتقاله هو وخمسة آخرين، حيث فتحت لهم ملفات أخرى من المفترض أن تودى بهم فى غياهب السجون لفترات طويلة.

تضاف هذه المحاكمة حتى وإن لم تكتمل إلى قائمة الإخفاقات التى يتمتع بها الرئيس الأمريكى الذى انتهت ولايته فى ديسمبر 2008

أما رجال السى آى إيه المتهمون فإن من بينهم رئيس محطة السى آى إيه فى ميلانو جيف كاستيلى، والرئيس السابق للمحطة روبرت سيلدون ليدى، وهؤلاء مسئولون رفيعو المستوى فى الـ«سى آى إيه» وكان أحدهم وهو ليدى قد اشترى فيلا فاخرة فى ميلانو حتى يقضى فيها باقى عمره بعد التقاعد، لكن الأمر تحول لاحتمال أن يقضيه إن قبض عليه فى إحدى زنازين ميلانو، ورغم الرفض الأمريكى لتسليم أى من المتهمين إلا مذكرة الاعتقال الأوروبية بقيت تشكل رعباً للأمريكيين غير مسبوق وإخفاقاً وفضيحة كبيرة لأكبر جهاز تجسس فى العالم فى أكبر دولة ومن من؟ من دولة كانت هى أكبر حلفائه فى أوروبا.

وقد باشرت المحكمة نظر القضية فى التاسع من يونيو من العام 2007 وهى الأولى من نوعها، حيث دعمت الحكومة الإيطالية مطالب الدفاع للمحكمة الإيطالية العليا بأن توقف المحاكمة، معتبرة أن وثائق الادعاء سوف تخرق قوانين السرية وتلحق أضراراً بعلاقة إيطاليا مع السى آى إيه وقد فضح المدعى العام سباتارو كل هذه الأمور فى كتابه الذى صدر مؤخراً، وقد وصل الرئيس الأمريكى آنذاك جورج بوش إلى إيطاليا بعد ساعات من بدء المحاكمة التى تعتبر إدانة له ولإخفاقاته حيث تضاف هذه المحاكمة حتى وإن لم تكتمل إلى قائمة الإخفاقات التى يتمتع بها الرئيس الأمريكى الذى انتهت ولايته فى ديسمبر 2008 جورج دبليو بوش، الذى كتب عنه ألنوهارث مؤسس صحيفة «يو إس إيه توداى» أكبر الصحف الأمريكية انتشاراً فى افتتاحية الصحيفة يوم الجمعة 16 فبراير 2007 قائلاً بأنه «أسوأ رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة»، كما أن الخزى والعار الذى يلف قائد الاستخبارات العسكرية الإيطالى هو إدانة لكل رجال الاستخبارات الذين يظنون دائماً أنهم فوق البشر وأن ما يقومون به لا يمكن أن يجرؤ أحد على مواجهتم به.. نكمل غداً.

(3)

فجأة تغيرت الحكومة وجاء يوم الحساب لرجل كان يعتقد أنه فوق القانون بل كان يعتقد مثل غيره من رجال الأمن والاستخبارات الذين يستخفون بآدمية الناس أنهم القانون، وقرر المدعى العام الإيطالى سباتارو أن يتحدى الحكومة وما يسمى أسرار الدولة، وقد ذكر تفاصيل القصة كاملة فى كتابه، وأكد مع القضاة الذى تولوا القضية فى كافة درجاتها حتى حكم النقض الأخير أن ما يحدث فى إيطاليا هو وسام على صدر القضاء الإيطالى، ورغم أن إيطاليا هى من أكثر دول أوروبا وربما دول العالم فساداً، فإن بها كثيراً من القضاة الشرفاء الذين دفعوا حياتهم من قبل فى مواجهة الفساد والعصابات المنظمة، وعلى رأسها عصابات المافيا، والآن يواجهون الولايات المتحدة ويحاكمون جهاز استخباراتها ويفضحون كثيراً من جرائم الـ«سى آى إيه» وتجاوزاتها وتواطؤ أجهزة الأمن والاستخبارات الإيطالية معها، ورغم تعهد الحكومة الأمريكية بعدم تسليم أى منهم فإن هذه الأحكام ستظل سيفاً مسلطاً عليهم بحيث لا يجرؤ أحد منهم على العودة إلى أوروبا أو الدخول إلى أى من بلادها.

ولم يكن الألمان بعيدين عما يحد ث فى إيطاليا، ففى نهاية يناير من عام 2007 قالت سلطات الادعاء الألمانية إنها أصدرت أذون اعتقال بحق ثلاثة عشر من عملاء الاستخبارات الأمريكية الـ«سى آى إيه» لما له علاقة باختطاف مواطن ألمانى من أصل لبنانى هو خالد المصرى، حيث اعتقل على يد رجال تابعين للمخابرات المركزية الأمريكية الـ«سى آى إيه» فى مقدونيا عام 2003 وتم نقله إلى سجن سرى فى أفغانستان حيث مورست عليه كافة صنوف العذاب، وكان «المصرى» قد أقام دعوى قضائية أمام محكمة أمريكية فى 6 ديسمبر من عام 2005 حيث أقام الدعوى نيابة عنه اتحاد الحريات المدنية الأمريكى، ونظرت القضية أمام محكمة اتحادية بمدينة الإسكندرية فى ولاية فيرجينيا الأمريكية، وطالب «المصرىس بتعويض واعتذار من السلطات الأمريكية عما ألمَّ به، واعتبرت القضية فى حينها تحدياً للإدارة الأمريكية فى وقت كانت توجه فيه الاتهامات لها بأنها كانت ترحل المشتبه بهم إلى سجون دول حليفة وصديقة من أجل التحقيق معهم وتعذيبهم تحت الاستجواب، وبعد مداولات استمرت حتى أكتوبر من عام 2007 أصدرت المحكمة العليا الأمريكية قرارها فى 9 أكتوبر 2007 برفض نظر القضية لدوافع تتعلق بـ «الأمن القومى الأمريكى» وهذه هى الشماعة التى يتم عليها تعليق كافة جرائم الولايات المتحدة فى كافة أنحاء العالم، لكن «المصرى» كان يمارس عبر محاميه ضغوطاً على الحكومة الألمانية أيضاً حتى تطالب بتسليم المشتبه بهم باعتقاله لمحاكمتهم فى ألمانيا، لكن مجلة «ديرشبيجل» الألمانية قالت إن الولايات المتحدة رفضت تسليم المتهمين، بناء على مذكرة كانت أصدرتها محكمة ألمانية فى ميونيخ فى شهر يناير من عام 2007، وقررت ألمانيا كما ذكرت «ديرشبيجل» عدم المضى قدماً فى المطالبة بتسليم الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع استمرار محاكمتهم فى ألمانيا، حيث حصل المدعون الألمان على عشرين اسماً من العملاء السريين الأمريكيين الذين تورطوا فى عملية اختطاف «المصرى» من حلفائهم الإسبان فى الوقت الذى يصر فيه «المصرى» على ضرورة حصوله على اعتذار من قِبل السلطات الأمريكية ومحاكمة المتهمين باعتقاله، وقام «المصرى» فى 8 يونيو 2008 بإقامة دعوى قضائية ضد الحكومة الألمانية وأجبر المصرى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على الاعتراف بالخطأ فى حقه، حيث تحدثت عن قضيته أمام وسائل الإعلام، ثم استخدمت سلطاتها فى إغلاق الملف بعد ذلك، لكن الإيطاليين أبقوا الملف مفتوحاً حتى نهايته، إن هذه القضية تؤكد أن كل من تعرض لشىء من هذه الجرائم عليه أن يتابع المجرم حتى النهاية، كما أن ملفات التعذيب لا تسقط بالتقادم، وهناك مجرمون متورطون فى هذه القضايا مصريون يجب أن تحرك ضدهم وأن يحاكموا حتى يكونوا عبرة لغيرهم وإننا ننتظر من المدعى العام المصرى أن يفعل شيئاً مما فعله المدعى العام الإيطالى وأن يقدم المجرمين المصريين الذين شاركوا فى تعذيب أبوعمر المصرى طوال أربع سنوات للقضاء إذا كان كما يدعى لديه الاستعداد للاستشهاد من أجل استقلال القضاء.

Total
0
Shares
السابق

أوروبا المسيحية تعود إلى جذورها

التالي

الحكم على السى آى إيه 1

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share