الطريق إلى الجمرات (2)

كانت تروادنى فكرة الذهاب من مزدلفة إلى الجمرات سيرا على الأقدام، لا سيما أننى فى حجة سابقة راودتنى فكرة الذهاب مع الحجاج المشاة من عرفات إلى مزدلفة وفعلتها، ورغم مشقتها كانت لها حلاوتها التى لم أنسَها، كنت أنام قرب لافتة كتب عليها أن المسافة من مزدلفة إلى الجمرات تزيد على خمسة كيلومترات وهى بعرف الذى يعشقون المشى ليست مسافة بعيدة ومع سرعة الخطى تأخذ ساعة، لكن المهم أن يكون الطريق سالكا إليها، بعد صلاة الفجر توجهنا إلى «الباص» حتى نذهب إلى الجمرات، لكنى سرعان ما حولت الفكرة التى تروادنى فى الذهاب سيرا على الأقدام إلى قرار، وقلت لمن معى: هل يود أحدكم أن يرافقنى فى الذهاب إلى الجمرات سيرا على الأقدام؟ قال أحدهم: أنا أرافقك، ونزل معى، لكنه سرعان ما اختفى عنى بين الجموع، كانت «الباصات» تسد الطريق؛ لذا حرصت على أن أتوجه إلى أحد طرق المشاة الأربعة التى تربط بين مزدلفة ومنى، وأغلب الحجاج من كل الملل والنحل والأجناس والألوان يقطعون هذه المسافات سيرا على الأقدام حتى من كبار السن والنساء، ورغم أن أغلبهم من الفقراء فإن من بينهم كثيرا من أولى العزم، لا سيما أن المواصلات ليست منسابة بالشكل المريح كما يعتقد البعض، وأذكر أنى حينما استيقظت قبل الفجر بساعة سمعت سيدة مصرية تتحدث مع سائق «الباص» الذى كان يرافقهم بعدما أغلق عليهم «الباص» وتركهم دون مكيف أو أى شىء وذهب ينام، مما أدى إلى مشكلات صحية لبعض المرضى وكبار السن فى «الباص»، وهذه المشكلة تلازم معظم الحجاج؛ فالمطوفون يتركونهم فريسة للسائقين دون مرافقين أو إداريين يصاحبون الحجاج ويرتبون لهم أمورهم، ورغم أن هذه المسافة لا تزيد على خمسة كيلومترات فإن بعض الحجاج يبقون فى «الباصات» لست وسبع ساعات أحيانا حتى يتمكنوا من تجاوز تلك المسافة البسيطة، أما الذين قُدر لهم أن يركبوا القطار فقد كانت مأساتهم أكبر، وقضى بعضهم ثمانى ساعات ينتظرون أدوراهم حتى يقلهم القطار لمسافة لا تزيد على عشر دقائق ركوبا. كان طريق المشاة الرئيسى القادم من جبل عرفات وحتى الجمرات يقع فى أقصى اليمين، بينما كنت فى أقصى اليسار، فسعيت إلى أن أذهب إلى أقرب طريق من الأربعة، مشيت فى أحدها مع جموع من كل الدنيا جاءوا يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه، لكنى على أطراف مزدلفة وقبيل دخول منى وجدت المشاة قد توقفوا وبدأ الزحام والتلاحم والاختناق فيما وجدت بعض الحجاج عائدين يقولون إن الطريق مغلق فى الأمام، حينما وجدت عدد العائدين بدأ يزداد عدت مع بعضهم حتى وجدت مركزا للدفاع المدنى وقفت عنده لأفكر ماذا أفعل.. كانت المشكلة ليست فىّ على الإطلاق، لكن فى النساء والأطفال وكبار السن الذين كنت أتألم لهم، لكنهم كانوا مصدر قوة وشجاعة بالنسبة لى ولكثير من أمثالى، وجدت من يحمل أباه أو أمه أو زوجته أو أولاده، ووجدت الذين انحنت ظهورهم من كبار السن يمشون، بعضهم يحمل متاعه على رأسه أو على ظهره عائدا به من عرفات سيرا على الأقدام فى مسافة تزيد على عشرة كيلومترات، الكل يلهث بالذكر والدعاء، غير أن الزحام كان يضيق صدور الناس أحيانا ويذهب ببهجة الخشوع وجمال المنظر.. وقفت أتأمل فى الناس قليلا ثم وجدت طريقا جانبيا منسابا فمشيت مع الناس فيه حتى وصلت عند عنق الزجاجة وعرفت أن سبب الزحام والتلاحم أن طريق المشاة الذى كنا نسير فيه مغلق ومحول إلى طريق آخر ونقطة التحول ضيقة، مما يؤدى إلى تزاحم الناس وبطء الحركة والاختناق وقليل من التدافع، وكلما وجدت طفلا على ذراع والده أو مسنا على كرسى متحرك أو عجوزا تستند على زوجها شعرت بالشفقة ودعوت الله ألا يرد أيا منهم إلا وقد تقبل حجه وغفر ذنبه، كان الخروج من عنق الزجاجة أمرا شاقا إلى حد بعيد، وكنت أتساءل: لماذا يفعلون ذلك بالحجاج ويزيدون المشقة على المشاة؟ لقد كان الطريق منسابا فلماذا أغلقوه وحولوا الناس إلى طريق آخر وفيهم المريض والمسن والمقعد والطفل؟ (نكمل غدا).

Total
0
Shares
السابق

الطريق إلى الجمرات (1)

التالي
عدنان سعد الدين

عدنان سعد الدين ج 8 : مساعدة صدام للإخوان..وجرائم رفعت الأسد..ومذبحة حماة

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share