كنت أعشق السير فى شوارع ودروب دمشق القديمة، لا سيما فى هدأة الليل، هنا صنع التاريخ من الرومان إلى الدولة الأموية وما بعدها، ولأن هذه البلاد من أجمل بلاد الدنيا فقد جذبت إليها الناس من كل الأعراق، وحينما فتحت دمشق ذهب عشرات من الصحابة والتابعين إلى بلاد الشام وأقاموا فيها وفيها قبورهم؛ حيث لا تكاد تخلو مدينة من مدن الشام من قبر صحابى، حتى إن دمشق وحدها بها قبور أكثر من مائة من الصحابة، وفى حمص يقع قبر خالد بن الوليد ومسجده، وفى كل مدينة من مدن الشام تجد المدينة القديمة بسوقها وحماماتها والتاريخ والعراقة بها، حينما ذهبت إلى حمص وجدت شيئا من رائحة دمشق.. والسوريون مثل المصريين يختزلون الشام كلها فى دمشق؛ حيث يطلقون على دمشق الشام، كما يطلق أهل مصر على القاهرة مصر، حينما ذهبت أول مرة لم أشعر أنى فى بلد آخر، كنت فى امتداد مصر بكل ما فيها، وقد بقيت الشام على مدار التاريخ تمثل العمق الاستراتيجى لمصر من حدودها الشرقية التى كان الغزاة يأتون منها دائما؛ لذلك كان محمد على، أحد حكام مصر العظماء وآخرهم، يضع عينيه دائما على الشام فأرسل إليها ابنه إبراهيم بجيش جرار حتى يؤمّن حدود مصر الشرقية. كان لى صديق يحفظ تاريخ الشام وبيوت دمشق القديمة بيتا بيتا وحجرا حجرا، كان يأخذنى فى كل زاوية ولا يكف عن الشرح والكلام، كنت أشعر وأنا أسير معه فى الدروب القديمة أنى أسير فى دروب التاريخ، الآن كل شىء فى سوريا يدمر حلب، أقدم مدن الدنيا، تدمَّر بيتا بيتا وشارعا شارعا وحيا حيا، النظام العلوى الحاكم فى سوريا قام فى عام 1982 بهدم حماة، إحدى أقدم الممالك فى العالم على رؤوس أهلها، فمحا تاريخها وحضارتها القديمة، والآن يدمر سوريا كلها بالطائرات وصواريخ سكود، هذه الصواريخ التى لم تطلق مصر منها على إسرائيل فى حرب أكتوبر إلا ثلاثة صواريخ فقط، أطلق النظام البعثى العلوى فى سوريا عشرات منها على المدن السورية العتيقة، فمحا معالمها التاريخية وشوارعها وحتى حواريها، محا كل ما كان يميزها وأصبح حجم الدمار الهائل فى سوريا حتى الآن يقدر بعشرات المليارات من الدولارات، حتى إن الخبراء يقولون إن تكلفة إعادة الأعمال تزيد على مائتى مليار دولار والحرب لم تضع أوزارها بعد، ومهما كان الإعمار فلن يعيد المبانى التاريخية أو الشوارع القديمة أو الحوارى أو رائحة التاريخ التى لم يعرف عبقها إلا من مشى فى هذه الشوارع وأدرك معنى التاريخ والحضارة. أما الجغرافيا، فكل شىء فى سوريا يتغير الآن: المقاومة تنظف الشمال بلدة بلدة، والنظام يتراجع ويتقوقع.. ومع كل خلافات المعارضة تسعى فى بداية مارس إلى الإعلان عن تشكيل حكومة تقوم بإدارة المناطق المحررة التى يتوقع أن تعلن فى الشمال وتكون عاصمتها حلب، وهذا يعنى أن سيناريو التقسيم يمكن أن يتم فى ظل المخاوف الغربية من استمرار سوريا كيانا واحدا يقوده الإسلاميون كما يقولون؛ لذلك لا يقومون بإمداد المقاومة بأى أسلحة نوعية، خوفا من سقوط النظام وقيام نظام يهدد أمن إسرائيل التى يعتبر الحفاظ عليها الهدف الأساسى لأمريكا والغرب.. إذن نحن أمام معادلات جديدة تعنى أن سوريا التى عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية، أى بعد مرحلة التقسيم الثانية والتقطيع للعالم العربى، لن تكون سوريا المستقبل، سوريا المستقبل دمر العلويون البعثيون تاريخها، ويساعد الغرب الذى قام بعملية التقسيم من قبل على عمل تقسيم جديد لها، يحاول أن يضمن من خلاله دويلات ضعيفة مهلهلة لا تهدد أمن إسرائيل، وليس هناك ما يمنع من دعم الغرب لدويلة تحمى أمن إسرائيل على الحدود معها، على أن تبقى دويلة الشمال فى تناحر وخلاف. وقد نقلت مصادر عديدة أن الدول الغربية تقوم بدعم الفصائل غير الإسلامية فى المناطق الغربية والجنوبية من سوريا والمتاخمة لحدود فلسطين حتى تقوى شوكتها وتضمن ولاءها حال سقوط النظام، غير أنه فى ظل السيولة القائمة فى المشهد لن يستطيع أحد أن يضمن شيئا، لكن الشىء المؤكد هو أن تاريخ سوريا وجغرافيتها يجرى تدميرهما الآن بشكل منهجى منظم.