صفحات من مرض الزعيم الملهم

«طوال خريف العام 1976 اصيب الرئيس بنوبة انهيار عصبي مثل تلك النوبات التي كان يتعرض لها دوريا منذ خمس سنوات، فانعزل في قصر قرطاج وكان لا يستقبل احدا وكنت من الاشخاص القلائل الذين كان يستدعيهم كل عشية فتألمت للمشهد المتردي، لقد كان في غرفة نومه مرتديا مجرد سروال قصير وقميص وهو جالس في الظلام وحوله أجراس عديدة، وكنت كل مرة أمكث طويلا الى جانبه، محاولا تسليته بسرد بعض الذكريات السعيدة وكان ينهض من حين لآخر، ليدور حول كرسيه دون ان يسمع كلامي، وكانت تتخلل تلك الفترات من الارتباك، لحظات من الوعي الثابت، فيفتح قلبه دون تحفظ متحدثا عن كل شيء بصراحة غريبة دون ان يجامل ولا يترك شاردة ولا واردة، وامتلكت عقله عقدة واحدة وهي مستقبل تونس من بعده». هذه العبارات عن مرض زعيم تونس التاريخي الحبيب بورقيبة كتبها عنه احد اقرب المقربين منه ومحل ثقته وزير الداخلية الاسبق الطاهر بلخوجة في صفحة 153 من كتابه عن حياة الزعيم الملهم الذي حكم تونس ثلاثين عاما كان من بينها عشرون عاما مريضا بأمراض عضال. وهذا الوصف كان قبل ان يتم الاطاحة ببورقيبة بأحد عشر عاما. ولنا ان نتخيل كيف اكمل هذا الزعيم الملهم حكم تونس احد عشر عاما من بعد وحتى ندرك ان الفساد كان يمخر في عباب الدولة وأجهزتها فإن هذا الزعيم الذي كانت الامراض تنهش في جسده لاسيما الاكتئاب والنوبات العصبية قد قضى معظم العشرين عاما الاخيرة من حكم تونس في مصحات اوروبا، قرر الحزب في العام 1976 تعديل الدستور بحيث يصبح هذا المريض الميؤوس من حالته رئيسا لتونس مدى الحياة وكانت الانتخابات الرئاسية تزور ليحصل على 99,999 في كل انتخابات، قلبت صفحة اخرى من صفحات الحديث عن مرض الزعيم من احد الذين قالوا له لا وعارضوه بعدما فاحت رائحة الفساد والعفونة في حكمه وهو احمد المستيري وزير الدفاع والداخلية والعدل والمالية في عهد بورقيبة الذي قدم استقالة مدوية ومسببة من وزارة الدفاع في شهر يناير عام 1968 عاقبه بعدها بورقيبة الى نهاية عمره على انتقاده للمجاهد الاكبر والزعيم الاوحد. يقول المستيري في صفحة 214 من كتابه «شهادة للتاريخ» لم يسترجع الرئيس صحته تماما إثر عودته من فرنسا واستأنف مسلسل سفراته للعلاج وكان يعاني من امراض خطيرة من اثر الجلطة القلبية والانهيار العصبي وسافر الى فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة للعلاج، وفي المرة الاخيرة جلب عددا من الاطباء التونسيين والفرنسيين والاميركان وعندما اتموا الفحص وتشاوروا فيما بينهم اجتمعوا بنا، كنا عددا قليلا من المسؤولين بحضور زوجته وسيلة، وقالوا لنا ان لهم ثلاثة افتراضات: اما ان تتحسن حالة المريض وهذا امر غير وارد، والافتراض الثاني اما ان تستقر وهو الافتراض الاكثر تفاؤلا، اما الافتراض الثالث فهو ان تتدهور الحالة.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

السيسي يعد للإطاحة بالجميع !!

التالي
عبد الغفار شكر

عبد الغفار شكر (5) : عبد الناصر انحاز للفقراء .. لكنه أقام نظاماً سلطوياً

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share