زكريا محيي الدين..الصندوق الأسود لجمال عبدالناصر

زكريا محيي الدين

نُشر المقال فى 24 سبتمبر 2012

جلسات طويلة قضيتها مع نائب رئيس الجمهورية المصرى الأسبق حسين الشافعي حينما كنت أقوم بالتحضير والتسجيل معه لحلقات برنامجى التليفزيونى شاهد على العصر فى العام 1998.

ورغم ما شاهده الناس فى الحلقات من مشادات وقسوة فى الحوار فقد نشأت علاقة إنسانية بينى وبين الشافعى امتدت حتى وفاته فى 18 نوفمبر 2005، حيث كانت العلاقة لا تخلو من المداعبات والمشاكسات، منها على سبيل المثال أنى حينما تعرضت لحادث الاعتداء الذى وقع علىّ خلال الانتخابات البرلمانية فى شهر نوفمبر من العام 2005، وكان ذلك قبل وفاته بأيام، وظهرت على الهواء مباشرة فى الحلقة التى استضفت فيها الدكتور نعمان جمعة، الذى كان رئيساً لحزب الوفد آنذاك، مدمى الوجه ومتورماً، ووجهت بلاغاً على الهواء مباشرة إلى وزير الداخلية وصل إلى كل مشاهدى الجزيرة فى أنحاء الدنيا، بعدها ذهبت لمكتب مدير أمن القاهرة اللواء إسماعيل الشاعر آنذاك لعمل البلاغ، ثم ذهبت للمستشفى وعدت قرب الفجر إلى بيتى، فوجدت على آلة التسجيل الخاصة بالهاتف اتصالات كثيرة كان من بينها أكثر من خمسة اتصالات من النائب حسين الشافعى، حتى أنه فى آخرها قال لى: «يا ابنى رد علىّ أنا قلقان عليك».

بقيت أتردد على النائب حسين الشافعى زائراً من آن لآخر وأذكر أنى ذهبت إليه مرة بصحبة أبرز الشخصيات العسكرية المصرية فى القرن العشرين، الفريق سعد الدين الشاذلى

وفاة حسين الشافعي

قدرت المشاعر الإنسانية الراقية له، وقلت سوف أتصل عليه فى الصباح، لكنى قبل أن أتصل عليه فى الصباح اتصل هو مبكراً وقال لى بصوت ملهوف: «حمدالله على السلامة يا ابنى، أنا طول الليل ما نمتش وقلتعملوا فيك إيه دول ولاد….». قلت له: أنا بخير والحمدلله لا تقلق . وبعدما سمع منى الرواية واطمأن أنى بخير عادت له دعاباته معى ، وقال لى:«بس العلقة كانت ساخنة يا أحمد؟.. الضرب وجعك؟».. ثم غرقنا معاً فى الضحك، سألته عن صحته فقال لى إنه مريض تؤلمه ركبته ، ويذهب للطبيب، ثم قال لى: متى تأتى لزيارتى ؟ قلت : سوف أنتهى من عمل الفحوصات على رأسى وجسمى وأتابع بلاغى مع النائب العام، وأقضى بعض المواعيد ثم أمرّ عليك، أخذنى الوقت ثم اتصلت عليه يوم الخميس قبيل سفرى حيث كانت وفاته يوم الجمعة 18 نوفمبر، وقلت له : أرجو أن تسامحنى يا سعادة النائب، أنا أسافر غداً لكنى أعدك بالزيارة حينما أعود بعد أيام لمراجعة النائب العام ، قال: سأنتظرك. فى اليوم التالى، وأنا فى طريقى للمطار ، اتصل علىّ ابن أخيه المهندس عادل الشافعى وكان مقرباً منه. وقال لى: البقاء لله، عمى توفى قبل قليل حينما كان يتوضأ لصلاة الجمعة، عزّيته وبلّغت الزملاء فى الجزيرة فكانوا أول من بث الخبر وأعدنا إحدى حلقات شهادته على العصر.

أذكر أنى حينما اتصلت عليه وذهبت لزيارته أول مرة فى العام 1998، كان ينتظرنى فى حديقة بيته الذى كان فيلا فى مدخل شارع البطل أحمد عبدالعزيز وتم هدمها بعد وفاته وقامت مكانها عمارة كبيرة الآن، ظل يستمع إلىّ بدون أن يتحدث ويطرق برأسه ويهزها وأنا أحدثه عن تاريخ الثورة وأهمية أن يسجل شهادته ، ثم رفع رأسه ونظر لى بتحدٍّ وقال لى : قل لى يا سيد أحمد ؟ قلت له: نعم يا أفندم ؟ قاللى : قل لى بصراحة؟ إنت مين اللى زقّك علىّ؟ صُدمت بالسؤال فالرجل له حق، خمسة وعشرون عاماً، كما قال لى، لم يطرق بابه صحفى، وفجأة يجد صحفياً يتصل عليه ويريد تسجيل ساعات من الحوار التليفزيونى معه ، أمر مقلق لأناس عاشوا تحت نظام الاستبداد حتى لو كانوا جزءاً منه.أجبته ببديهة وسرعة وقلتله وأنا أبدى المسكنة : أقول لسعادتك وتستر علىّ ؟ قال بلفهة : قول.. قول.. قلت له: قناة الجزيرة ؟ رجع بجسمه للوراء ثم نظر لى نظرة مطولة ثم انفجر فى الضحك.وقال لى: «إنت باين عليك داهية يا ولد»، عرفت مفاتيح نفسه فى ذلك اليوم، وبقيت أتردد عليه ستة أشهر فى إطار التحضير لحلقات شاهد على العصر.. ..

زيارة مع سعد الدين الشاذلي

.. بقيت أتردد على النائب حسين الشافعى زائراً من آن لآخر وأذكر أنى ذهبت إليه مرة بصحبة أبرز الشخصيات العسكرية المصرية فى القرن العشرين، الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس الأركان المصرية الأسبق، وقائد الجيش فى حرب أكتوبر، وبعدما شربنا الشاى فى الحديقة وتحدثنا فى مواضيع مختلفة، سأله الفريق سعد الدين الشاذلى قائلاً: إلا فين الكلب يا سعادة النائب؟ وكان النائب حسين الشافعى لديه كلب بوليسى كبير الحجم فى بيته، ولما كنت أخاف من الكلاب بسبب كلب عضنى وأنا صغير، فكنت حينما أذهب إليه أقول له : لو سمحت قول للكلب يبعد ، فكان يشير للكلب فيبتعد، إلاحينما كنت أسجل معه الحلقات حينما يغضب منى ويأتى الكلب يترك الكلب حتى يقترب منى ويخيفنى ولا يطلب منه أن يبتعد إلا حينما يفكر الكلب فى إيذائى ، وفى مرة أغضبته غضباً شديداًخلال التسجيل وقرر ألا يكمل تسجيل الحلقات وخرج للحديقة غاضباً وصوته مرتفع وخرجت وراءه فجلس صامتاً تحت تكعيبة عنب فى الحديقة، وجلست أمامه صامتاً أتحين الفرصة للحديث حتى أعيده للتسجيل مرة أخرى، لكنه بقى صامتاً وبقيت جالساً أمامه، وجاء الكلب فقلت له لوسمحت يا سعادة النائب خلّى الكلب يذهب، لكنه لم ينطق ببنت شفة، كررت طلبى فبقى صامتاً والكلب يتجه صوبى، تجمدت على الكرسى مكانى وتعوذت من شر ما خلق ، فجاء الكلب ثم نام عند قدمى وأنا لا أتحرك، ثم رفع النائب رأسه ونظر لى نظرة شماتة وقال لى: «جوه عاملى سبع وبطل فى الحوار وعمال تقولى كانى ومانى وتقلب عليا المواجع ودلوقت خايف من الكلب،مش هقوله يمشى»، قلت له: قلبك أبيض يا سعادة النائب ده أنا غلبان، وكنت أول ما أقوله أنا غلبان تنفرج أساريره ويغرق فى الضحك، لكن هذه المرة قال لى: إنت غلبان إنت؟ قلتله: والدليل إنى خايف من الكلب، ضحك حينها وانفرجت أساريره لكنه أصر على عدم التسجيل، وخلال دقائق كنت قد صفيت نفسه واتفقنا أن نكمل التسجيل فى اليوم التالى.

أعود للفريق الشاذلى وسؤاله عن الكلب، حينها أجابه النائب قائلاً: ده الكلب مات ودفناه هنا فى الجنينة ، ثم نظر لى وقال: طبعاً إنت فرحان ما إنت كنت بتخاف منه ؟ قلت له وأنا أكتم الضحك: خالص العزاء يا سعادة النائب، فضحكنا جميعاً.مرة أخرى ذهبت لزيارته مع الفريق سعد الدين الشاذلى فى فيلته فى المعمورة فى الإسكندرية، وكنا نجلس فى الصالون نتحدث، حينها نزلت من الطابق العلوى السيدة الفاضلة زوجته وسألته وهى تنزل من على السلم عن ضيوفه ، فقال لها: «تعالى هذا الفريق سعد الشاذلى وهذا بلدياتك أحمد منصور؛ لأنها أيضا من المنصورة»، فقالت بصوت غاضب: أحمد منصور؟ إيه اللى دخله بيتنا ده بعد اللى عمله معاك فى «شاهد على العصر»، فضحك من قلبه وقال لها: «تعالى ده بره الحوار طيب غير اللى بتشوفيه على التليفزيون»، لكنها بقيت غاضبة وقالت لى بحدة: «ما هذا الذى فعلته مع سعادة النائب، هل يليق أن تتحدث معه بهذه الطريقة؟»، فأخذ هو يدافع عنى وعن طريقتى فى الحوار، ثم تحدثت بعده وطال الحديث مع القهوة، ثم فوجئت بها تقول لى: «يابنى ماإنت طيب أهو أمال إيه اللى بتعمله مع ضيوفك فى التليفزيون ده؟» قلت لها: بصراحة اللى بيطلع فى التليفزيون ده شخص شرير معرفوش، فضحكنا وصارت تضيفنى وترحب بى كلما ذهبت لزيارة النائب بعد ذلك.

لكنى أتذكر أنى فى إحدى الجلسات فى حديقة فيلته، التى كانت فى بداية شارع البطل أحمد عبدالعزيز وهدمت بعد وفاته وقامت مقامها عمارة شاهقة الآن، قلت له: أريد منك خدمة يا سعادة النائب، امتلأ وجهه بالجدية ونظر لى نظرته الحادة وقال لى : ماذا تريد يا أحمد؟ نكمل غداً.

الصندوق الأسود لجمال عبدالناصر

قلت للسيد حسين الشافعى : أريد منك خدمة يا سعادة النائب؟ امتلأ وجهه بالجدية ونظر لى نظرته الحادة وقال لى: ماذا تريد يا أحمد؟ قلت له: أريد أن ألتقى مع سعادة النائب زكريا محيى الدين، وأنا أعرف أن بيته ملاصق لبيتك، وأنك من القلائل الذين يرتبطون بعلاقة جيدة معه، وأريد أنتتاح لى الفرصة لتسجيل مذكراته فى برنامج «شاهد على العصر» كما سجلت معك، فالرجل كنز من الأسرار وتولى مناصب حساسة وهامة خلال سنوات عبدالناصر، ونريد أن يكشف ويقدم للشعب المصرى وللشعوب العربية بعضاً من فصولها، ظل النائب ينظر لى بصمت مثلما كان يفعل حينما أفتح معه موضوعاً حساساً، وأطرق يفكر ثم قال لى: سألتقى معه وأعرض عليه الأمر، قلتله: أخبره أنى فقط أريد أن أشرب فنجاناً من القهوة معه، ودع لى مهمة إقناعه بتسجيل شهادته، لأنى أعتقد أنه سوف يعترض مثلك فى البداية، ولذلك أرجو أن تترك لى مهارة إقناعه، ضحك النائب ثم قال لى: ستقنعه كما أقنعتنى أيها الشرير، قلت له سأحاول؟ قال وهو ينظربعيداً، أشك فى أن تقنعه وأشك فى أن يتكلم، لكنى على أى الأحوال سأعرض عليه الأمر وسأبلغك بالنتيجة.

زكريا وأمثاله يموتون ومعهم أسرارهم فلا تحاول معه لأنه لن يتكلم

“حسين الشافعي”

فى زيارتى التالية ذهبت للنائب وتحدثنا فى أمور كثيرة وعمدت ألا أفتح قصة النائب زكريا محيى الدين حتى يفاتحنى هو أدباً منى، وكذلك حتى يأخذ فرصته، لكنه فاتحنى فى الأمر وقال لى: أنا كلمت سعادة النائب زكريا واعتذر، قلت له: ولا حتى فنجان قهوة؟ قال لى: ولا قهوة ولا شاى، صمت قليلاً ثم قلت له: خلينا نتجاوز القهوة وندخل معاه فى صلب الموضوع ، صمت الشافعى طويلاً ثم قال لى: لا أعتقد أنه سيقبل، قلت له: لماذا؟ صمت مرة أخرى ثم قال لى: عن أى شىء تريده أن يتحدث معك يا بنى؟ لقد كان زكريا صندوق عبدالناصر الأسود ، كان رئيساً لجهاز المخابرات الحربية بعد الثورة ثم وزيراً للداخلية، وهو الذى أسس جهاز المخابرات العامة عام1954، وبعد ذلك أصبح وزيراً للداخلية فى عهد الوحدة بين مصر وسوريا، ثم وزيراً للداخلية مرة أخرى بعد الانفصال ثم رئيساً للوزراء عام 1965، ونائباً لرئيس الجمهورية وكنت نائباً ثانياً معه، وقبيل حرب عام 1967 أرسله عبدالناصر إلى الولايات المتحدة للتفاوض قبل الحرب، لكن الحرب قامت وهو فى المغرب فعاد من الطريق، وحينما أراد عبدالناصر أن يتنحى بعد الثورة اختاره ليقدمه للشعب رئيساً بديلاً، بعدها شعر زكريا أنه احترق فاعتزل الحياة السياسية ولزم الصمت إلى الآن.

حينما كان وزيراً للداخلية تم حياكة وترتيب كل المؤامرات والمحاكمات والإعدامات والملاحقات التى جرت لمعارضى عبدالناصر داخل مصر وخارجها

“حسين الشافعي”

زكريا محيي الدين

سكت الشافعى قليلاً وأنا أنصت ثم قال لى: عن أى شىء تريده أن يتكلم إن الأسرار التى لديه هى أسرار فترة حكم عبدالناصر بكل ما فيها من أشياء لا يعرفها الناس، وإن زكريا وأمثاله يموتون ومعهم أسرارهم فلا تحاول معه لأنه لن يتكلم. وبالفعل لم يتكلم زكريا محيى الدين وبقى صامتاً منذ أن اعتزل الحياة السياسية عام 1968 حتى وفاته عن عمر ناهز94 عاماً فى 15 مايو الماضى 2012، لكن على سبيل المثال لا الحصر كل ما يتعلق بالعلاقة السرية بين عبدالناصر والولايات المتحدة رتبت عبر زكريا محيى الدين، وحينما أسس المخابرات العامة أخذ كثيراً من بنية وتدريبات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سى آى إيه»وحينما كان وزيراً للداخلية تم حياكة وترتيب كل المؤامرات والمحاكمات والإعدامات والملاحقات التى جرت لمعارضى عبدالناصر داخل مصر وخارجها، سواء كانوا من الإخوان المسلمين أو الشيوعيين أو حتى الناس العاديين، وإن أمثال زكريا فى الأنظمة يكونون صناديق سوداء للأنظمة ومن حملة الملفات السوداء، يحملونها ويموتون ومعهم أسرارها، لقد عاش زكريا محيى الدين عمراًمديداً ورحل ومعه الكثير من الأسرار التى لم ولن يعرفها أحد عن عبدالناصر وعهده، فقد كان زكريا محيى الدين هو الصندوق الأسود لجمال عبدالناصر.

  

Total
0
Shares
السابق
مهاتير محمد

مهاتير والأربعين حرامي !!

التالي
عارف عبد الرزاق

كيف يقوم العسكر بالاستيلاء على السلطة في العالم العربي؟

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share