تفكيك القصر الرئاسي

حرص الألمان منذ انهيار جدار برلين في التاسع من شهر نوفمبر عام 1999 علي إزالة كل ما يمت للشيوعية ولما كان يسمي بألمانيا الشرقية بصلة ، وباستثناء المستشارة الألمانية الحالية إنجيلا ميركل التى كانت ناطقة سابقة باسم حكومة ألمانيا الشرقية لا يوجد في مفاصل الدولة الألمانية العليا أي مسئول ينتمي إلي أي حكومات ما كان يسمي بألمانيا الشرقية وهذا ما يطرح كثيرا من التساؤلات لماذا ميركل ؟ لكن الأهم من مجرد إزالة المسئولين الألمان السابقين من أي مسئولية في الدولة الجديدة هو إزالة كل ما كان يتعلق بتلك الدولة ، وربما كانت برلين أحد أهم تلك المعالم التى كانت ترمز إلي أن هناك دولة أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية وظلت قائمة حتى نوفمبر عام 99 تسمي ألمانيا الشرقية ، وهذه الدولة كان لها حكومتها ورئيسها وعملتها ومطاراتها وعلاقاتها الديبلوماسية والدولية ، غير أن القصر الرئاسي يبقي دائما من أهم الرموز لأي دولة جمهورية ، وقد كان القصر الرئاسي لألمانيا الشرقية الذي يقع علي نهر من أهم المعالم في برلين ، وكان الرئيس أريك هونيكر الذي حكم ألمانيا الشرقية أربعة عشر عاما قبل أن تنهار وينهار الجدار من أبرز الرؤساء الذين حكموا من هذا القصر ، فهونيكر صاحب الشخصية الصارمة والذي كان يتمتع بشعبية كبيرة داخل الحزب الشيوعي الألماني ، لم يكن يتمتع بشعبية مماثلة لدي الشعب فقد فشل نظامه في تأمين حياة أفضل للألمان الشرقيين الذين كانوا يعيشون في عالم آخر محاط بأسوار نفسية واقتصادية وسياسية واجتماعية أعقد كثيرا من جدار برلين ، ورغم أن هونيكر عزل بعد المظاهرات العارمة التى اجتاحت ألمانيا الشرقية قبل انهيار الجدار باثنين وعشرين يوما فقط ، ولم ينجح خليفته إيجون كرينتس فيي السيطرة علي الأوضاع فانهار الجدار وانهارت ألمانيا الشرقية ، لكن الألمان الغربيين الذين حاكموا هونيكر الذي اتهم بالفساد و الخيانة ثم أفرجوا عنه عام 92 لسوء حالته الصحية ـ ثم مات بالسرطان بعد ذلك بعامين فى شيلي ـ سعوا لمحو كل ما كان يتعلق بما كان يسمي ألمانيا الشرقية ، فأجزاء كبيرة من سور برلين تمت إزالتها ، وأذكر وأنا في برلين كلما تحدثت مع أحد الألمان وسألته عن أي مكان أريد الذهاب إليه ثم سألته هل هذا فى الشرقية أم الغربية ؟ كنت أسمع الأجابة السريعة ، لم تعد هناك شرقية وغربية ، فأبتسم ثم أعيد السؤال مرة أخري حتى أسمع نفس الأجابة ، مررت علي كثير من الأماكن التى كانت حواجز بين برلين ، ورأيت كثيرا من النصب التذكارية لراغبين فى الفرار من القسم الشرقي قتلوا أثناء محاولتهم العبور ليس إلي القسم الغربي فقط من برلين ولكن إلي الحياة وإلي العالم كما كان يعتقد كثيرون ممن كانوا يقومون بهذه المغامرات ، لقيت عائلة ألمانية شرقية رغم تعليمهم العالي كونهم الزوج و الزوجة أساتذة في الجامعة إلا أنهم لم يتعلموا اللغة الأنجليزية لأنها كانت تمثل في نظر الألمان الشرقيين آنذاك لغة الأمبريالية والأستعمار لكني وجدت ابنتهم التى ترعرعت بعد سقوط الجدار تتحدث الأنجليزية بطلاقة ، بل وتتقن معها لغات أخري .

لم يكتف الألمان بعزل الرئيس أريك هونيكر الذي ارتبط اسمه بسقوط جدار برلين ومحاكمته ، لكنهم الآن يقومون بتفكيك القصر الرئاسي لما كان يعرف بألمانيا الشرقية وإزالته من الوجود ومحو وجوده من الذاكرة ، رغم أنه كان أحد التحف المعمارية المميزة في المدينة ، لم يكتفوا بتفكيك النظام ، وتفكيك دولة ألمانيا الشرقية وإنما يقومون الآن بتفكيك القصر الرئاسي حتى لا يبقي هناك أي أثر أو معلم يمكن للأجيال القادمة أن تتحدث عنه ، أو للأجيال السابقة أن ترمز إليه ، ورغم أن الشيوعيين السابقين شكلوا أحزابا اشتراكية ويديرون كثيرا من البلديات منها بلدية برلين التى تتميز بمبناها الأحمر إلا أنهم عجزوا عن الحيلولة دون تفكيك القصر الرئاسي ، أربعون عاما كانت فترة طويلة في أعمار البشر لكنها فى أعمار الأمم ليست شيئا ، وبالتالي فإن كثيرا من القصور التى يمارس الظلم من خلالها حتى وإن بقيت عقودا أطول فإنه يأتي دائما من يفكك ذلك القصر حتى يمحوه من ذاكرة الناس محاولا إعادة الأعتبار لحياتهم من جديد محاولا محو مساويء هذا القصر من ذاكرة الناس لكنه من المستحيل أن يمحوها من التاريخ .

Total
0
Shares
السابق

حريق تقسيم العراق

التالي

الطريق إلي عدن

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share