مراد غالب : لماذا لم يُكمل شهادته على العصر ؟ (1 – 2)

مراد غالب

حينما سألت الدكتور مراد غالب مهندس العلاقات المصرية السوفييتية و وزير الخارجية المصري الأسبق في إحدي جلساتي معه للتحضير لتسجيل شهادته في برنامجي التليفزيوني شاهد على العصر عن رؤيته لما  آل إليه الوضع في مصر الآن وقراءته للمستقبل  ؟  نظر إلي نظرة طويلة صامته ، ثم اغرورقت عيناه بالدموع ثم أجهش بالبكاء ، جلست في مكاني صامتا لا أتحرك ولا أتكلم وأنا أشعر بحرج بالغ مما سببته للرجل الذي جفف دموعه واستعاد رباطة جأشه بعد قليل  ثم قال لي : ”  أعتذر إليك لم أتمالك نفسي ” ،  فقلت له : ”  آمل ألا يكون في سؤالي ما يؤلم ، ولكنه السؤال الذي يسأله الجميع فى مصر الآن ؟ ماذا حل بمصر ؟ وماهو مستقبلها في ظل ما هو قائم ؟ ولعلك من أقدر السياسيين ذوي الخبرة الذين يمكن أن أجد عندهم الإجابة ؟ ورغم أني سأسجل معك حلقات عن التاريخ لكني أعتقد أن الحاضر الذي تعيشه مصر الآن ، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ليس سوي إفرازاً ونتيجة لذلك التاريخ الذي شاركت أنت  مع آخرين  في صناعته ”  .

قال الدكتور غالب : ( ذلك ما أبكاني … الذي أبكاني هو  ما آل إليه وضع مصر الآن ، مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير ، أفضل  مما حدث ويحدث لها )

مراد غالب

قال الدكتور غالب : ”  ذلك ما أبكاني … الذي أبكاني هو  ما آل إليه وضع مصر الآن ، مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير ، أفضل  مما حدث ويحدث لها  ، فحينما قبلت المشاركة مع رجال الثورة وكنت من المدنيين القلائل القريبين منهم حيث كنت أعمل أستاذا للأنف والأذن في كلية الطب وكنت صديقا منذ الطفولة لصلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي الذين قدموني بعد الثورة لجمال عبد الناصر وبعد ذلك  طلب عبد الناصر مني  أن أترك التدريس فى كلية الطب وأتفرغ للعمل السياسي معهم ،  كنت مليئا بالأمل أننا سنحول مصر إلي واحدة من أفضل دول العالم ،  فلدينا كل شيء يؤهلنا لذلك الموقع الجغرافي والتاريخ والإنسان وكافة العوامل الأخري التى يمكن لنا من خلالها أن نجعل مصر التى تقع جغرافيا فى قلب العالم أن تكون بالفعل قلب العالم ، لكننا للأسف أخطأنا جميعا ووصلت مصر بأعمالنا إلي ما وصلت إليه الآن ، مصر بلد عظيمة ، وكانت ولازالت بحاجة  إلي أناس عظماء ليضعوها فى المرتبة التى تليق بها ، هل تعلم لماذا قررت أن أبني هذه الفيلا هنا في الصحراء   حيث أقضي نصف  أيام الأسبوع  هنا ونصفها تقريبا في القاهرة   إلا  إذا كانت لدي اجتماعات هامة في منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية التى أرأسها ؟ ”  قلت له : ” لماذا ؟ ” قال : ” شعرت أني بحاجة إلي أن  أفكر فيما قمت به وما قدمته لبلدي  وما كان ينبغي علي أن أقدمه ، هنا أجد صفاء ونقاء وصلة بيني وبين الله افتقدتها طوال حياتي ، هل تعرف كم أن النهار هنا صاف وهاديء ؟  وكم أن الهواء نقي ومنعش ؟  وكم أن الليل هنا فى الصحراء ساحر  ؟  لاسيما حينما أنظر إلي السماء وأتأمل النجوم  وأتفكر فى خلق الله ، إنني أقضي ساعات مطولة هنا  في الليل  أتفكر فى النجوم والمجرات الهائلة في السماء وكأنني أعرف  وأري سماء مصر لأول مرة ،  وقد أتيتني وأنا أقرأ في واحد من أهم الكتب عن أسرار السماء والمجرات كتبه برفيسور أمريكي ، حيث فتح لي هذا الكتاب آفاقا واسعة ومعاني جليلة للتفكر والتمعن في السماء وخالقها  وبنائها وكواكبها ونجومها ومجراتها لاسيما مع سكون الليل وهدوء الكون من حولي  ،كم  أشعر الآن   بعظم الخالق سبحانه ، وكم أننا غافلين عن النعم وعن آيات الكون المحيطة بنا  ، وأننا لا ندرك ذلك إلا في لحظات من العمر قد تكون متأخرة ، ولكني أحمد الله أنها أتت .

مصر بلد عظيمة ، وكانت ولازالت بحاجة  إلي أناس عظماء ليضعوها فى المرتبة التى تليق بها

(مراد غالب)

أما هم مصر فهو  من الهموم التى لا تفارقني هنا ، كثيرا ما أتألم في خلواتي هنا ، وكثيرا ما أبكي علي ما آل إليه وضع مصر ،  لكني عادة ما أكون وحدي  لكن سؤالك جعلني لا  أستطيع أن أحبس دموعي بعدما قلبت المواجع فى نفسي بهذا السؤال  الذي  صادف هما  يلازمني  ،  وهو هم يصاحبه عجز وألم علي ما آلت الأوضاع في مصر  وما يمكن أن يؤول إليه مستقبلها  ، ولا أدري هل ما يبكيني هو العجزعن فعل ما كنت أود أن أفعله وأن أري عليه مصر حينما تركت الطب واشتغلت بالسياسة  ؟   أم الندم علي مشاركتي للآخرين فيما قاموا به وأوصلوا  مصر بتصرفاتهم  إلي ما وصلت إليه رغم أني لا أشك فى وطنيتهم   ؟  أم أن الإنسان في هذا السن تزداد عاطفته و تغلب عليه الجوانب  الإنسانية فيصبح رقيق القلب والنفس فيتعامل مع الأمور بصورة أخري فتتغلب عليه عاطفته وتكون دموعه هي الأقرب  في بعض  الأحيان ؟ كثيرا ما أفكر في الأنسان المصري وكيف أنه لم يأخذ حظه ليكون له دور فى تنمية بلده فلم يجد مفرا من أن يهاجر ليبدع  أو يعيش  يائسا محبطا في بلده ، لقد فكرت كثيرا   فى فرص التنمية التى أهدرت وفي النتائج التى وصلنا إليها بعد هذه السنوات ولدي نقاش مطول معك فى هذا الموضوع  ” .

شعرت أن دموع الدكتور غالب أزالت كثيرا من الحواجز النفسية  بيني وبينه ، تلك الحواجز التى أبذل في بعض الأحيان جهدا كبيرا لإزالتها بيني وبين بعض ضيوفي لاسيما وأن الكثيرين منهم يعرفونني من خلال الشاشة  حيث أبدوا قاسيا كما يصفني البعض ،  لكني حينما أقترب منهم خارجها أقترب بإنسانيتي أكثر من مهنيتي ، لكن دموعه قربت كثيرا من تلك  المسافات بيننا حتى فارق السن الذي يزيد عن أربعين عاما شعرت أنه ذاب وتلاشي  حتى أصبحنا مثل الأصدقاء الذين يعرفون بعضهم منذ سنوات بعيدة فرقت بينهم الأيام  ثم جمعتهم مرة أخري وأصبحت هناك   ألفة عجيبة بيني وبينه ، حتى أنه في كثير من الأحيان كان يحدثني وكأني فى مثل سنه فيقول لي : ” هل تذكر الحادث الفلاني ” ثم يسمي حادثا وقع فى الأربعينيات أو الخمسينيات أو حتى بداية الستينيات من تلك الحوادث التى لم أقرأ عنها أو التى لا يعرفها سوي جيله هو ، فأقول له ببراءة وأنا أبتسم  : ” طبعا لا أتذكر هذا الحادث ، لأني لم أكن ولدت بعد ” ثم نغرق سويا فى الضحك ، وأذكر أنه حتى أثناء تسجيل بعض الحلقات كان يقول ذلك فأردد نفس الجملة ثم نضحك ،  فيروي لي هذا الحادث بشكل مفصل كأنما أشاهده الآن ، وهو في هذا الجانب  من أفضل من صادفتهم في الحياة ممن يجيدون الوصف ورواية المشاهد التاريخية كأنما تقع أمام المستمع أو المشاهد  الآن ، وأذكر أنه بعد  ذلك أصبح  هناك  تواصل دائم  بيننا  حتى أني  حينما كنت أتأخر في الإتصال به بعد ذلك بسبب أسفاري وانشغالاتي الكثيرة ، كان حينما يسمع صوتي عبر الهاتف بمجرد أن أحييه  يقول لي بطريقة أحببتها دائما  منه  وهو يصيح كأنما يحدث صديقا عزيزا يعرفه من قديم : ” أحمد … ياااااه ….إنت فين يا راجل ؟ هشوفك إمتي ؟  “

كان الفارق هائلا بين لقائي هذا  بالدكتور مراد غالب الذي كان في شهر أكتوبر من  العام 2006 في فيلا أقامها في مزرعة صغيرة في عمق الصحراء علي طريق مصر الإسكندرية الصحراوي ،  ولقائي به قبل  ذلك بأكثر من عامين  في شهر يوليو من  العام 2004    فى فيلته بقرية العبد  بالساحل الشمالي قرب مرسي مطروح ، لترتيب تصوير شهادته في برنامجي التليفزيوني ”  شاهد علي العصر ”  وذلك بعد اتصالات هاتفية معه وترتيبات استمرت ما يقرب من عامين  وقد بدأت في العام 2002 ، وقد صحبت معي في تلك الزيارة  كلا من الصديق   محمد مراد مهندس الديكور ـ الدكتور غالب يكون عمه  ـ  والزميل مصطفي حسين الذي كان من المقرر أن يقوم بإخراج البرنامج  آنذاك ،  والمهندس مصطفي عز الدين مهندس الإضاءة ، حيث كان المطلوب منهم أن يقرروا فنيا  مدي إمكانية التصوير فى الفيلا لأن الدكتور غالب أبلغني أنه يقضي شهور الصيف كلها هناك ولا يعود إلي  القاهرة إلا في أكتوبر وكنت وقتها قد أعددت نفسي للتصوير خلال شهر يوليو من العام 2004   لكن التقرير الفني كان هاما بالنسبة لي قبل بدء التصوير لاسيما وأن الإضاءة ستلعب دوار هاما في التصوير  ، كما كان علي أن أرتب ما أسميه بجلسات الإستماع وهي جلسات عادة ما أعقدها مع شهود العصر للحديث بحرية وكسر الحواجز النفسية وتناول الفترات التاريخية التى سوف نتعرض لها حتى أقوم بعدها بترتيب المادة العملية ودراستها من الكتب والمصادر المختلفة ثم أحدد موعدا للتسجيل .

الطريق إلي الساحل الشمالي

استغرق الطريق من القاهرة إلي قرية العبد حيث كان يقيم الدكتور مراد غالب حوالي خمس ساعات  تعرضت خلالها  لانتقادات شديدة من رفاقي بسبب التزامي بسرعة الطريق حيث أني أتحاشي السرعة  دائما وأتجنب  أن أضع نفسي في مواضع الحرج مع ضباط المرور وأتعرض لسحب رخصة القيادة  ، وبعد توالي الأعتراضات منهم اضطررت في النهاية أن أترك القيادة للمهندس محمد  مراد قبيل الوصول إلي منطقة  سيدي عبد الرحمن ، وفي أول خمس دقائق من قيادته للسيارة أوفقنا من قبل شرطة المرور بسبب السرعة الفائقة التى كان يقود بها ، وكانت  المشكلة الأكبر  أن مراد لم يكن يحمل  رخصة القيادة فقد تركها في سيارته في القاهرة حينما التحق بي وركب فى سيارتي ، وبالتالي تم سحب رخصة السيارة ، فطلبت منهم جميعا ونحن غارقون في الدعابة والضحك الساخر  أن يعيدوا القيادة لي أو يلتزم من شاء منهم بالقيادة بسرعة الطريق لاسيما وأن الرخصة التى سحبت هي لسيارتي وسوف أساءل قانونيا  حينما أراجع إدارة المرور لاسترداد رخصة سيارتي عن سبب منحي القيادة لسائق لا يحمل رخصة قيادة  علاوة علي ضياع وقتي في محاولات  استعادة الرخصة ، ولعل التزامي بسرعة الطريق جعل الرحلة شاقة وطويلة  إلي حد ما علي الجميع  .

تشكيلة من الخمور

بعد هذه الرحلة الشاقة وا لمرهقة كان السؤال الأول من الدكتور مراد غالب بعدما وصلنا مفاجأ لنا جميعا فقد قال  : ماذا تحبون أن تشربوا ؟ وقبل أن يجيب أي منا واصل قائلا بجدية  : ” كل شيء متوفر .. فودكا.. براندي .. بلاك  ليبل  …  وقبل أن يستمر فى سرد أنواع الخمور المختلفة فوجئت بأن الرفاق جميعا ردوا عليه  بالرفض والاعتراض حتى كان رد بعضهم  يحمل شيئا من الأستنكار والحدة  بشكل أذهلني حتي أن أحدهم قال : ” أعوذ بالله … ” ،  ولأني كثير السفر وألتقي مع أنواع مختلفة من البشر من شتي الملل والنحل  فحينما أتعرض لموقف كهذا أعتذر بلباقة إلي مضيفي  وأخبره أني لا أشرب ولا أدخن وأفضل ألا  يتناول أحد الشراب أو التدخين في حضوري لأن هذا يسبب الأذي لي ،  أما إذا كنت أنا صاحب الدعوة و أضيف آخرين حتى لو كانوا من الغربيين من غير المسلمين  فإني أقول لهم بوضوح تام  أني لا  أدفع ثمن المشروب ولا أحب وجوده علي الطاولة لأن هذا  أمر ديني ألتزم به  ويؤذيني لو حدث ،  وعادة ما أجد احتراما وتقديرا والتزاما   من الآخرين حينما أخبرهم بهذا ،  ، لكن ردة الفعل  النافرة من الزملاء جعلت الدكتور غالب يشعر بالحرج  الشديد الذي بدا علي وجهه ،  فاعتذر من فوره  عن عرضه  وهو يلملم نفسه  وساد وجوم وصمت وتوتر قطعته بلطف قائلا للدكتور غالب : ”  أعتقد أن لديكم عصيرا يخفف عنا عناء تلك الرحلة الطويلة  ”  ،  ثم  أخذت أروي  له بدعابة  ما حدث معنا طوال الطريق وقصة قيادة المهندس مراد للسيارة وسحب الرخصة بعد دقائق معدودة من قيادته  وذلك حتى نغير مسار الكلام  وأزيل التوتر الذي حدث مع إضافة بعض مشاهد السخرية للقصة حيث أن المهندس مراد   أصر بعدما أوقفنا شرطي المرور أن أنزل من السيارة معه حتى إذا رآني ضابط المرور ربما يعرفني ولا يقوم بسحب الرخصة ورغم أني لا أحب هذه المواقف إلا أني ذهبت مع شروط من أهمها أني لن أتكلم علي الأطلاق مع الضابط ولن أطلب منه شيئا إن عرفني وتنازل عن سحب الرخصة دون كلام كان بها أما إن قام بإجراءاته فلن أتكلم ،  لكن الطامة الكبري أن الضابط لم ينظر إلينا ولم يرفع وجهه عن الدفتر الذي كان يسجل فيه المخالفات حتى أن مراد تعمد أن يستثيره حتى يرفع وجهه وينظر إلينا ربما يتعرف علي  إلا أن الضابط الذي كان يقف أمامه طابور طويل من المخالفين وكان يقوم بعمله بآلية وعجلة  ودون تفكير،  لم يرفع رأسه بينما كنت أكتم ضحكاتي من محاولات مراد  الذي حذرته من محاولة إحراجي .

كان الدكتور مراد غالب يتابع القصة بإنصات واهتمام بالغ  وحينما لاحظت اندماجه فى القصة معي حتى قال حينما وصلت إلي ذروة القصة التى تتلخص فى سحب رخصة السيارة قال  :  ” يانهار أبيض ؟ ” شعرت حينها  أن هذه  القصة قد أذهبت جو الحرج الذي ساد بعد عرضه تقديم الخمور إلينا  ،  ثم غيرت الحديث إلي اتجاه آخر وقلت  له : ” إن المكان ساحر هنا ، حيث يري البحر من كل جوانب القرية تقريبا كما أنه خليج حركة المياه فيه هادئة ” فقال لي وتعبيرات وجهه ونبرات صوته تبدوا  وكأنما يتغزل فيمن يعشقها ” : ” هل تعرف .. إن  هذا من أجمل المناظر التى يمكن أن تراها فى هذه الدنيا ، لقد سافرت في أرجاء الدنيا ورأيت كثيرا من الأماكن الجميلة  لكن المناظر هنا في مصر من أجمل ما وقعت عليه عيناي ، كم هي عظيمة بلادنا ، إني أقضي شهور الصيف كلها هنا ، ولا  أمل ولا أشبع  من النظر والتأمل في البحر طوال الوقت ” .

لقد  كان مراد غالب رجلا شغوفا بالمعرفة إلي آخر حياته ، حتى أنه قال لي أن شغفه بالمعرفة والإطلاع جعله  أثناء دراسته للدكتوراه في مجال الطب  يقرأ مكتبة كاملة فى الإقتصاد وعلومه ، كما أنه درس اللغة الروسية وأتقنها رغم صعوبتها وهي ما جعلته يفهم العقلية والنفسية السوفييتية و يقيم  علاقات واسعة داخل المجتمع السوفيتي

 ولكوني  أعشق البحر أنا  أيضا فقد كنت أنصت  باستمتاع إلي وصفه ،  وكان انطباعي الأول عنه أنه رجل    يجيد الوصف ورسم المشاهد والأحداث بشكل يخلب الألباب و يسيطر فيه علي المستمع ،  كما أنه يجيد  التعبير عما بداخله بعبارات جزلة بسيطة وأن  من يجالسه لا يمل منه ويشعر بسرعة  أنه قريب منه ، ولكوني  أحب الأستماع  والأنصات لاسيما لعذب الوصف وجميل المعاني  أكثر من حبي للكلام  ، فقد كنت سعيدا بالأنصات إليه ، وحبي للأستماع والأنصات يزداد حينما يكون المتحدث من أمثال الدكتور غالب ،ولعل هذه الصفات الشخصية هي التى جعلته قريبا من كثير من الناس الذين تعرف عليهم في حياته وجعل الكثيرين منهم  بشتي تناقضاتهم يحبون إقامة علاقات معه حتى من كبار  الزعماء السوفيت رغم أنه كان فى الفترة الأولي في موسكو  بين عامي 1953 و1957 سكرتيرا ثالثا فى السفارة إلا أن السوفيت كانوا يقدمونه علي السفير ويوجهون الدعوات إليه حتى أن بعض رفاقه في السفارة وشوا إلي عبد الناصر وقالوا له : ” إن  مراد غالب أصبح سوفييتيا  ” ، كما كان بعض  السوفيت يقولون له حينما يتبسطون في  الحديث معه ويتحدثون عن بعض أسرارهم وخصوصياتهم ”  إننا ننسي فى بعض الأحيان أنك لست منا ”  حتى ان سائقه الروسي حينما شعر بشعبيته وقدرته علي نسج العلاقات بسرعة قال له : ” لو رشحت نفسك فى الإنتخابات هنا فربما تصبح عضوا فى مجلس السوفيت الأعلي ”  ، وحينما أعاده عبد الناصر سفيرا في موسكو عام 61 وبقي حتى استدعاه السادات عام 72 وعينه وزيرا للخارجية استطاع خلال تلك الفترة أن ينسج علاقات وثيقة عالية المستوي مع كبار الزعماء السوفيت وكان رجلا يجيد فهم ما حوله ، لقد  كان مراد غالب رجلا شغوفا بالمعرفة إلي آخر حياته ، حتى أنه قال لي أن شغفه بالمعرفة والإطلاع جعله  أثناء دراسته للدكتوراه في مجال الطب  يقرأ مكتبة كاملة فى الإقتصاد وعلومه ، كما أنه درس اللغة الروسية وأتقنها رغم صعوبتها وهي ما جعلته يفهم العقلية والنفسية السوفييتية و يقيم  علاقات واسعة داخل المجتمع السوفيتي وكان أوثقها مع خرتشوف الذي تحدث عن غالب في مذكراته ، وكان مراد غالب هو السفير الوحيد الذي تحدث عنه خرتشوف في مذكراته وقال عنه ” لقد كنا نحترمه ” .

 أخذت أوجه النقاش في تلك الجلسة  إلي ما يفيدني فى تسجيل الشهادة معه وجاءت السيدة الفاضلة زوجته فشاركتنا جانبا من الحديث لاسيما حينما ذهبت بصحبته إلي موسكو عام 1953 وانطباعاتها الأولي عن تلك الدولة فى ذلك الوقت ، ثم علقت التعليق الذي أسمعه دائما ممن يقابلني للمرة الأولي : ” تبدوا ألطف كثيرا في الحديث عن الشكل الذي تظهر فيه   التلفزيون حيث تبدوا حادا وقاسيا  مع ضيوفك وكأنك فى خصومة كبيرة معهم ، لكنك شخص آخر هنا ” فقلت لها ضاحكا  : ” سأكشف لك سرا لا يعلمه كثير من الناس ” قالت بشغف ” ماهو ؟ ” قلت لها :  ” الحقيقة أن  هناك شخص آخر يتلبسني حينما أجلس أمام الكاميرا  وأتعجب مثلكم تماما  مما يفعله مع الضيوف ، وأغضب أحيانا منه مثلكم ، وأستنكر ما يقوم به فأقول ماهذا الذي يفعله أحمد  منصور ؟  ” فضحكنا جميعا وتحول الجو إلي الألفة والتبسط .

عدم وجود سجادة صلاة

 ولخوفي أن ينقضي الوقت في الحديث ويفوت موعد الصلاة قلت للدكتور غالب  ببراءة تامة : ”  الآن لدينا فاصل قصير  … هل يمكن أن أجد لديكم سجادة لأؤدي صلاة المسافر للظهر والعصر قبل أن يفوت الوقت ؟ ” إلا أن الوجوم ساد بعد سؤالي فلم أتخيل أن يكون سؤالي محرجا إلي الحد الذي ظهر علي وجه  الدكتور غالب  فقد نظر إلي بحرج بالغ وتعجب من طلبي لسجادة الصلاة وكأني قادم من كوكب آخر  وقال لي بعد صمت وتردد   : “أخشي أن يكون طلبك هذا عزيزا  ، للأسف الشديد  ليس لدينا سجادة صلاة ”  ثم ازداد حرجه وهو يحاول البحث عن مخرج  لكني استدرجت بسرعة وقلت له بسرعة   : ” لا بأس .. لا بأس  سأدبر حالي ولكن أرجو أن تسمح لي بالذهاب إلي أي غرفة خالية  لأؤدي الصلاة فيها ثم أعود  ” ، كان الحديث أمام أحد الخدم الذي أسعفني بقطعة قماش نظيفة  صليت عليها ،  وكذلك فعل رفاقي الواحد تلو الآخر ، ثم عدت حيث تناولنا الغداء وواصلنا  النقاش معه حتى المساء .

لكن ظهرت هناك مشكلة من الناحية الفنية للتسجيل فقد   أبلغني مهندس الأضاءة أن المكان لا يصلح للتصوير نهارا ، كما أن التصوير ليلا سيكون مستحيلا لأن المكان المرشح للتصوير ليلا سيكون مفتوحا ولا نضمن تواجد البعوض حول الأضاءة  ، وبالتالي لم يعد لدي مجال للتسجيل إلا فى القاهرة فسألت الدكتور غالب عن موعد عودته للقاهرة ، فقال لي : ” سأعود  في أكتوبر ” ، شعرت بشيء من خيبة الأمل إلي حد ما لأني كنت لأني كنت مهيأ من الناحية النفسية للتحضير والدراسة ثم تحديد موعد للتسجيل خلال شهر أو اثنين علي الأكثر ، كما أني حضرت معظم الكتب عن المرحلة التاريخية  التى سأتناولها معه ولم يبق لي سوي جلسات الإستماع معه ثم البدء فى دراسة المرحلة وتحديد موعد التصوير لكن كل ذلك أصبح في حاجة إلي إعادة جدولة من جديد لأن   لدي أسفار  أخري خارج مصر من سبتمبر إلي نهاية ديسمبر فقلت له  : ” ولكني للأسف لدي ارتباطات وأسفار كثيرة خارج مصر حتى نهاية ديسمبر و يصعب علي تأجيلها  فلن أستطيع العودة قبل نهاية ديسمبر ”  فقال :”  إذن نحدد موعد بعد ذلك ” .

في تلك الفترة كان التعب والإرهاق والأسفار المتلاحقة قد بلغت بي مبلغها فقررت في نهاية العام 2006 أن أوقف تقديم ”  برنامج شاهد علي العصر ”  إلي حين ،  وأن  أتفرغ فقط  لبرنامج  ” بلاحدود ”  حتى آخذ قسطا من الراحة ، لاسيما وأنا المنتج والمقدم للبرنامجين والمسئول عن تحديد  الأفكار و الضيوف وأقضي الليل والنهار فى الإعداد  و الدراسة وألاحق الضيوف من بلد إلي بلد وبعضهم أقضي معه عدة أشهر وأحيانا سنوات حتى أقنعه بالتسجيل فالكثير من الناس حتى من المسئولين السابقين لديهم حساباتهم الخاصة مما يجعلني أدخل معهم فى مفاوضات شاقة ومطولة  لا يشعر بها المشاهد   مما يجعل جهدي شاقا ومرهقا ،  وبالفعل  أبلغت إدارة قناة الجزيرة بأني سأوقف تقديم  برنامج ”  شاهد علي العصر ” لمدة عام أو لعدة أشهر علي الأقل ،  حتى أرتاح قليلا من عناء الأسفار المتلاحقة و العمل الدؤوب في برنامجين شاقين في آن واحد هما ” بلاحدود ” و” شاهد علي العصر ” حيث لا أجد وقتا لعائلتي أو حتي  لنفسي ، وبعد جهد ونقاش مطول  وافق رئيس مجلس الأدارة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني علي ذلك ، لكنه اشترط علي  أن يكون التوقف لعدة أشهر و بالفعل بعد  عدة أشهر  طلب  مني  الشيخ حمد بن ثامر الذي تربطني به علاقة أخوة وصداقة في نفس الوقت أن أبدأ مرة أخري في إعداد وتقديم ”  برنامج شاهد علي العصر ”  لاسيما وأن فترة الأستراحة التى طلبتها قد انقضت ،فطلبت منه أن يمهلني عدة أشهر أخري ، لكنه قال لي بدعابة : ”  يكفيك هذا يا أحمد    وعليك أن تبدأ في أقرب فرصة ” .

(يتبع)

مراد غالب : لماذا لم يُكمل شهادته على العصر ؟ (2 – 2)

Total
0
Shares
السابق

العراق علي خطي حرب فيتنام

التالي
مراد غالب

مراد غالب ج1 : عصر العلاقات المصرية السوفيتية..وتعرفه على الماركسية

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share