المرفوضون علي معبر رفح (1 -2)

معبر رفح

كنت أقف مع العشرات من الصحفيين والأطباء والعالقين الفلسطينيين والحقوقيين الدوليين ننتظر رد سلطات معبر رفح من الجانب المصري علي طلباتنا الخاصة بالعبور إلي قطاع غزة بعد يوم طويل من الانتظار فى ظروف غير آدمية أمام المعبر ، ومع تثاقل الوقت وتسرب الملل إلي نفوس الكثيرين كانت بوابة المعبر تفتح من آن لآخر  ليطل ضابط البوابة وينادي ” أين الوفد الألماني  ؟ ” ” أين الصحفيون الأمريكيين ؟ ” ” أين الوفد الفرنسي ؟ ” وهكذا … فخلال   اليوم الأول لوجودي علي المعبر دخلت عشرات الوفود لاسيما من الأوروبيين والأمريكيين كان من بينهم أكثر من خمسة وعشرين من الصحفيين ، وحينما أوشك المعبر علي الإغلاق نادي الضابط بصوت عال علي مسمع من الجميع قائلا : ” أحمد منصور ” لم يمهلني حتى للأجابة حتي أتبع الأسم بكلمة  ” مرفوض ” وكانت  هذه هي المرة الأولي في هذا اليوم التى تعلن فيها هذه الكلمة ” مرفوض ” كان الجميع يقال لهم ” التنسيق الأمني لم ينته بعد ” عليكم مراجعة ” المخابرات ” حتى الغربيين أصبحوا يقولون كلمة ” مخابرات ” باللغة العربية تماما كما ننطقها نحن العرب   لكن بالنسبة لي كان القرار فاصلا : ” مرفوض ” قلت للضابط : ” ما معني مرفوض ” قال لا أعرف ” هذا ما بلغت به من الداخل ” أنت مرفوض ” لم أجادله كثيرا فهو مثل غيره ينفذ الأوامر ، لكن  كان هناك اثنان آخران  ينتظران جوابا أيضا لكنهما  لم يبلغا بالرفض مثلي  ولكن قيل لهما ” التنسيق الأمني لم يتم بعد ” .

التنسيق الأمني

 ليس  هناك أسرار علي المعبر كل ما يدور داخل المعبر وخارجه يتداوله الجميع ، أشخاص ينادي عليهم ويدخلون للداخل يقضون دقائق وأحيانا ساعات ثم يعودون مرة أخري فى انتظار ” التنسيق الأمني ” وهي عبارة مهذبه للرفض ، وأحيانا لاختبار قدرة طالب الدخول إلي غزة علي الصبر والتحمل ، أو يأخذ قراره من تلقاء نفسه بالعودة إلي القاهرة مرة أخري ومن ثم العودة إلي بلده إن كان أجنبيا .

لم أقض اليوم الأول في المشاهدة والأنتظار فقط ولكني ما تركت وفدا في طريقه إلي غزة أو عائدا منها  إلا وتحدثت إليهم ،  كان بعضهم يتحفظ إلي حد عدم الأفصاح عن الهدف من الدخول ، بل قالت لي إحداهم وهي ألمانية  ” لدينا أوامر من المسئول ألا نتحدث إلي أحد ” أما المسئول عنهم  فقد رفض  حتى الأدلاء بالمعلومات البسيطة التى كنت أجمعها من أفراد الوفد المتناثرين ، بعض الوفود كانت تتكون من  شخصين وبعضها كان يصل إلي عشرين شخصا ، معظمهم أوربيون لاسيما الألمان والفرنسيين واليونانيين والأيطاليين   وقد لاحظت أن كثيرا منهم يتحدث العربية أو يفهمها علي الأقل ، وأصبحت علي يقين جازم من اليوم الأول لوجودي علي المعبر أنه ما من جهاز مخابرات فى العالم إلا وأرسل بعض عملائه و مندوبيه تحت أي من المسميات الكثيرة التى كان يدخل بها هؤلاء لمعرفة ماذا حدث ويحدث  فى غزة بعد حرب إسرائيل عليها ، بل إني لا أستبعد أن هناك إسرائيليين ممن يحملون جنسيات مزدوجة لاسيما الأوربيين والأمريكيين قد دخلوا للقطاع خلال الأيام الماضية لجمع المعلومات ، فجواز سفر غربي ومهنة صحفي أو لجنة إغاثة أو حتي طبيب أو متطوع أو جمعية من الجمعيات التى تملأ العالم ورسالة من سفارة بلدك وتنسيق أمني كفيل بأن تكون  فى غزة خلال ساعات تجمع ما تريد من معلومات ثم تعود .

تعرفت فى اليوم الأول علي كل من كورت جورنج النائب الأول للمدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية وهو أمريكي يقيم فى واشنطن ، وزميلته نانسي هوكر وهي بريطانية تعمل مسئولة للحملات في  منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى المنظمة ، وقد جاءا كوفد من المنظمة لدعم زميلين لهما تمكنا من الدخول إلي غزة فى اليوم الأول لفتح المعبر مع عشرات من الصحفيين والناشطين حيث دخل فى هذا اليوم مئات من الصحفيين وناشطي حقوق الأنسان كان من بينهم بعض زملائنا من قناة الجزيرة ، ولأن منظمة العفو الدولية مكروهة من قبل السلطات المصرية بسبب تقاريرها حيث  لم تشفع لجورنج وهوكر جنسياتهما الأمريكية والبريطانية ولا عشرات الأتصالات التى بقيا يجريناها طوال ثلاثة أيام بقيا فيها معي علي المعبر مع كل من وزارات الخارجية وسفارات بلديهما ومقر المنظمة الرئيسي فى لندن  ووزارة الخارجية المصرية  التى ربما أي جندي من الواقفين علي المعبر له سلطة أكبر من سلطة وزيرها عليه ففي نقاش بين أحد المرفوضين  ومسئولي بوابة المعبر قال المرفوض وهو أوروبي : ”  لقد اتصل وزير خارجيتنا مع وزير الخارجية المصري وأكد له أن كافة الترتيبات الخاصة بنا قد أنجزت من أجل الدخول إلي غزة فرد عليه المسئول الأمني قائلا ” خلي وزير الخارجية ييجي يدخلك ” .

ما يؤلمني هو أن مصر تمنعنا من دخول قطاع غزة لنوثق تجاوزات قامت بها إسرائيل ضد الفلسطينيين وليس مصر فلماذا تمنعنا مصر ؟

قطاع غزة

كان كورت ونانسي  لديهما دأب وإصرار عجيب علي الدخول إلي غزة وتوثيق الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ، في بعض الأحيان كنت أجدهما وقد استبشرا بمكالمة أو اتصال ثم يملأ الأحباط وجهيهما مرة أخري ، ثم يعودا معي فى المساء إلي الفندق وهما بين الدهشة والذهول مما يحدث ، قلت له : كورت … هل تعرضت لمثل هذا فى أي من مهمات عملك طوال عشرين عاما فى منظمة العفو الدولية ؟ قال : ” علي الأطلاق هذا شيء غريب لا أكاد أصدقه ، وما يؤلمني هو أن مصر تمنعنا من دخول قطاع غزة لنوثق تجاوزات قامت بها إسرائيل ضد الفلسطينيين وليس مصر فلماذا تمنعنا مصر ؟ ”  ، أما نانسي فقد قالت لي : ”  حتى حكومة طالبان لم تعاملني علي الحدود الأفغانية الباكستانية بهذه الطريقة ، فمرة واحدة طال وجودي علي الحدود الأفغانية ولم يزد عن ساعة أما ثلاثة أيام ومن أجل رصد انتهاكات قام بها الأسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني والذي تمنعني هي الحكومة المصرية أنا لا أكاد أصدق ؟ ” .

معبر رفح

بعد آذان الظهر فى اليوم الثالث لوجودهما علي المعبر جاءني كورت متهللا وقال لي : ” أحمد لقد أصبح  كل شيء علي ما يرام ،  جاءت  الموافقة والتنسيق الأمني تم ، الضابط قال لي بعد الصلاة سوف نبدأ في إنهاء إجراءات دخولكم ، لقد أكد لي الضابط أن كل شيء قد انتهي سوف ندخل إلي غزة يا أحمد ” لكن   كورت ونانسي ظلا باقي اليوم يركضان إلي البوابة كلما ظهر الضابط لينادي علي من يتم الأفراج عنهم والسماح بدخولهم إلي غزة ثم يعودان إلي حيث أقف غير بعيد والأحباط يعلو وجهيهما  وانتهي اليوم الثالث لهما دون جدوي  ، وفي في نهاية اليوم  جاءني الأثنان  وقالا  لي :  هل يمكن أن تعيرنا سيارتك لتوصلنا إلي العريش حتى نأخذ سيارة من هناك تعيدنا للقاهرة ؟ قلت لهما : هل ستراجعان الخارجية المصرية أم سفارات بلديكما ؟  قال :  لا سنعود أنا إلي واشنطن وهي إلي لندن يبدوا أن هناك قرارا نهائيا من الحكومة المصرية بعدم السماح لنا بالدخول إلي غزة لتوثيق الأنتهاكات التى وقعت هناك وسوف نوثق ذلك فى تقارير منظمتنا .

أما وفود الأطباء فكانت تتري من كل الدول العربية تقريبا ، ولم يكن الأطباء يقضون في العادة وقتا طويلا علي المعبر فقط ساعات وهي في مفهوم المعبر تعتبر شيئا من النزهة ، غير أن وفدا طبيا سوريا عومل بشكل آخر ففى اليوم الأول بقوا حتى نهاية اليوم تقريبا علي بوابة المعبر  ثم نادي ضابط البوابة عليهم كانوا ستة عشر طبيبا كلهم تقريبا من الجراحين ومعظمهم من جراحي الأوعية الدموية والجراحات الدقيقة وتم اختيارهم بعناية من قبل نقابة الأطباء في سوريا  من بين عشرات ممن تقدموا للذهاب إلي غزة  ، وبعد مساومات معهم  أخبرهم الضابط أن نصفهم فقط سيدخل اليوم أي ثمانية ، دخل ثمانية ثم أخبروهم فى الداخل أن سبعة فقط سوف يدخلون استبد القلق بالباقين وبالطبيب الذي أعادوه من الداخل وقال لي : ” الضابط أقسم لي بشرفه أننا سوف ندخل جميعا فى الصباح ” وفي التاسعة صباح اليوم التالي كانوا يقفون علي بوابة  المعبر مذهولين بينما كان الطبيب الذي تلقي الوعد بالشرف يكاد يهذي وهو لا يصدق أن الضابط سحب قسمه بشرفه بهذه السهولة باتوا يوما إضافيا فى العريش وصباح اليوم التالي  نشرت لهم خبرا علي  شاشة الجزيرة وتدخلت حكومتهم وفي نهاية اليوم نادوا عليهم غير أن الضابط أصبح يفحص تخصصات كل منهم ويقول لهم هذا التخصص ممكن أن يدخل وهذا غير مطلوب ، وهكذا دخلوا في مساومة أدت فى النهاية إلي دخولهم جميعا عدا أحدهم لأنه جراح أوعية دموية وهي من التخصصات الدقيقة التى يحتاجها أهل غزة ، لكن ضابط المعبر الخبير فى الطب والجراحة أكد أن هذا تخصص غير مطلوب في غزة  وأعاد الطبيب وحده دون باقي الوفد وبقي الطبيب محبطا علي المعبر طيلة الأيام  كل يوم يأتي فى الصباح ويبقي علي أمل الدخول إلي آخر اليوم حتى أعلن عن إغلاق المعبر بشكل نهائي .

كيف نمنع نحن المصريون من الدخول لمساعدة إخواننا فى غزة بينما يسمح لكل جنسيات العالم بالدخول

فى اليوم الثاني لوجودي علي المعبر جاء وفد علمي  من أساتذة الجامعات المصرية برئاسة الدكتور عادل عبد الجواد رئيس مجلس إدارة نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة ويضم الوفد أساتذة من معظم الجامعات المصرية متخصصين فى تخصصات عملية دقيقة تتعلق بالأحتياجات المعمارية والطبية التى يحتاجها أهل غزة فى مرحلة ما بعد العدوان أهمها خبراء فى إعادة الأعمار وبراءات اختراع بسيطة التكاليف تسهل كثير من المشكلات للذين هدمت بيوتهم وتقوم علي أفكار حازت علي جوائز دولية ، قضي العلماء المصريون ثلاثة أيام علي المعبر يحاولون كل يوم من الصباح إلي المساء ثم عادوا للقاهرة بعدما أعلن أن المعبر سوف يغلق بشكل نهائي فى الخامس من فبراير وقال لي الدكتور عادل عبد الجواد وهو يشعر بالأسي بعد ثلاثة أيام من البقاء علي المعبر  ” كيف نمنع نحن المصريون من الدخول لمساعدة إخواننا فى غزة بينما يسمح لكل جنسيات العالم بالدخول إننا نشعر بالعار من تصرفات هذه الحكومة ؟ هل يجب أن نحمل جنسية أوروبية حتى يحترمونا ؟ ” كان يحدث هذا فى الوقت الذي كانت الوفود اليونانية والأيطالية والفرنسية والأمريكية يسمح لها بالدخول دون عقبات بينما نحن المرفوضون نقضي سحابة النهار أمام المعبر ثم نتلقي وسام الرفض نهاية اليوم وأحيانا فى منتصفه ” مرفوض ” .

للمزيد

Total
0
Shares
السابق
جمال حماد

جمال حماد ج 9 : تورط عبد الناصر فى وفاة عبد الحكيم عامر

التالي
معبر رفح

المرفوضون علي معبر رفح (2 -2)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share