صناعة التاريخ ونهاية العصر الذهبي لإسرائيل

صناعة التاريخ حرفة، لا يتقنها إلا القليل من الحكام، فهناك من يقضي في الحكم عشرات السنين ولا يترك خلفه إلا الفقر والظلم والاستبداد والجهل والتخلف، وهناك من يقضي شهورا أو أعواما قليلة ولا يترك خلفه إلا التقدم والرقي والعزة لأمته.
تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا في عام 2003، وخلال سنوات معدودة تمكن من أن يخرج بتركيا من التبعية الكاملة للولايات المتحدة في القرار السياسي والعسكري الى الاستقلالية والسيادة، وكان قرار حكومة العدالة والتنمية برفض استخدام أراضي تركيا من قبل القوات الاميركية في حربها على العراق في مارس من عام 2003 أول القرارات الصادمة من قبل دولة هي عضو في حلف الأطلسي، للدولة الرئيسة فيه.
في المقابل جاء الرئيس حسني مبارك الى السلطة عام 1981 خلفا للرئيس السادات الذي كان يرى أن 99% من أوراق الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة غير أن مبارك ربما أعطى الواحد في المائة الباقية لتفقد مصر قرارها السيادي، ويحول السيادة عبر خطاب من يتولون الوظائف حوله الى مهازل وأهازيج دفعت مصر بمسؤولياتها التاريخية والجغرافية الى الوراء وتقهقرت على الصعيد الداخلي والعربي والدولي بشكل غير مسبوق في التاريخ، أما ما حققه أردوغان لشعبه وأمته خلال ست سنوات وما حققه مبارك لشعبه وأمته خلال تسعة وعشرين عاما فهذه قصة أخرى تحتاج الى كتب، ولكن لننظر الى المشهد خلال الأسابيع القليلة الماضية بين أنقرة والقاهرة.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية بدا المشهد بين أنقرة والقاهرة في صناعة تاريخ المنطقة فريدا الى حد بعيد، ففي الوقت الذي يتهم النظام المصري من قبل منظمات المجتمع المدني العربية والدولية بأنه يشارك في حصار مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة ويقوم ببناء سور فولاذي بتمويل وصناعة أميركية كاملة وفق اتفاق اسرائيلي – اميركي أكدته مصادر عديدة، كان الأتراك يقومون بدعم قافلة «شريان الحياة-4» التي كانت تحمل مساعدات إنسانية لسكان غزة ويتفاوضون مع الحكومة المصرية ويتوسطون لديها من أجل أن تسمح بوصول القافلة الى المحاصرين في غزة.. غزة التي اصبح الطابور الخامس من الكتاب المرتزقة في بعض وسائل الإعلام المصرية يصورها على أنها العدو ويحرض الرأي العام المصري ويتلاعب به وكأن الخطر الدائم الذي يهدد مصر هو من غزة وليس من إسرائيل، غزة التي هي جزء من العمق الاستراتيجي لمصر أصبح في مصر من الكتاب والإعلاميين من يحرض الشعب المصري عليها ويعتبرها العدو بينما يروج هؤلاء لإسرائيل على أنها الحليف الذي لم يسبب أي ضرر لمصر منذ توقيع اتفاقيات السلام.
مثل هذه الكتابات لا تأتي من فراغ وإنما هي جزء من حملة تمولها الولايات المتحدة منذ عدة سنوات من أجل تغيير الرأي العام المصري تجاه القضية الفلسطينية وقد نجحت الولايات المتحدة في حملتها عبر الرحلات التي قام بها كثير من هؤلاء الى الولايات المتحدة عبر برامج مختلفة تستمر بين شهر او اكثر كل حسب البرنامج المعد له.
لكن الدرس التاريخي الأكبر كان في صناعة الكرامة الوطنية وتعليم اسرائيل كيف تتعامل مع الكبار وذلك حينما أنذر الرئيس التركي عبدالله غول إسرائيل بأن تقدم اعتذارا رسميا مكتوبا عن الاهانة التي وجهها مساعد وزير الخارجية الاسرائيلي الى السفير التركي حينما استدعاه ووبخه حول مسلسل «وادي الذئاب» الذي نجح في استقطاب غالبية الشعب التركي (75 مليونا) لمشاهدته، وهو يصور بشكل واضح جرائم إسرائيل ضد النساء والأطفال.
يوم الأربعاء 13 يناير 2010 سيكون يوما غير عادي في التاريخ. ففي هذا اليوم هدد الرئيس التركي بسحب السفير من اسرائيل ما لم تقدم اعتذارا رسميا وقال «ما لم يتم حل المسألة هذا المساء فسيعود سفيرنا على أول طائرة يوم الخميس». وكانت اسرائيل قد حاولت التحايل حينما قام مساعد وزير الخارجية الاسرائيلي بتقديم اعتذار ضمني غير ان انقرة طلبت اعتذارا رسميا واضحا محددا، ركضت اسرائيل لتقديم الاعتذار، بل إنها أرسلت مسودة الاعتذار للرئيس التركي عبدالله غول ليطلع عليها ويجري عليها ما يشاء من تعديلات تتناسب والكرامة التركية ويقرها قبل إصدارها.
ووقف الاتراك جميعا بكل أطيافهم وراء الرئيس الذي دافع عن كرامتهم، وصدر الاعتذار الذي وصفته الصحف التركية بأنه النصر الدبلوماسي الذي طوى العصر الذهبي لإسرائيل، فإسرائيل أضعف مما يمكن أن يتصور وهي لا تستمد قوتها الا من الحكام العرب المتواطئين معها.
وسوف نرى في الفترة القادمة تأثير هذه السياسة التي تنتهجها تركيا على تغيرات كثيرة في المنطقة ومن أهمها ما يتعلق بالحصار الذي تفرضه اسرائيل عى قطاع غزة. فإسرائيل بحاجة ماسة الى تركيا كما هي بحاجة ماسة الى مصر أكثر من حاجة أي منهما الى اسرائيل، لكن ساسة تركيا يعرفون كيف يصنعون التاريخ ويظهرون بمظهر رجال الدول حينما يخرجون ويتحدثون ويفرضون على الدنيا ما يريدون.
لنا أن نتخيل أن مبارك بدلا من القبلات والعناق الذي يستقبل به قادة اسرائيل الملوثة أيديهم بدماء المصريين والفلسطينيين يتعامل مع اسرائيل بنفس الطريقة التي يتعامل بها عبدالله غول وأردوغان وأحمد داوود أوغولو مع زعماء إسرائيل، وهي سياسة التركيع لإسرائيل وصناعة العزة والكرامة، ما الذي يمكن أن يصبح عليه مصير اسرائيل ومستقبلها وهي بين فكي كماشة تركيا ومصر؟ إنها صناعة التاريخ لا يتقنها إلا من يعرفها.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

نهاية شاه إيران والدرس التاريخي

التالي

بلير يتخذ من الكذب العمد منهجا

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share