هل تندفع أميركا على طريق الاضمحلال؟

لم يتوقف كثيرون عند تصريحات وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس خلال خطابه الذي ألقاه في نهاية سبتمبر الماضي امام طلاب جامعة «ديوك» في الولايات المتحدة والذي حذر فيه من اتساع الهوة في الولايات المتحدة بين القوات العسكرية والمجتمع في البلاد، وقال غيتس ان الحرب التي تشنها الولايات المتحدة في كل من افغانستان والعراق تبقى بالنسبة لغالبية الاميركيين سلسلة من الاخبار البعيدة والبغيضة التي لا تؤثر شخصيا عليهم على اعتبار ان اقل من واحد في المائة من الاميركيين شاركوا فيها، وقال ان نسبة الشبان الذين تبلغ اعمارهم ثمانية عشر عاما ولديهم آباء من المحاربين القدامى قد انخفضت من 40% في العام 1988 إلى 18% فقط في العام 2000، وقال إن هناك دراسة اثبتت أن الخدمة في الجيش بالنسبة الى عدد متزايد من الاميركيين حتى بعد احداث 11 سبتمبر 2001 أصبحت «شيئا ينفذه الآخرون» وأكد على ان الولايات المتحدة تشهد «نموا خطرا» لمجموعة من القادة العسكريين المنفصلين سياسيا وثقافيا وجغرافيا عن المجتمع الاميركي الذين اقسموا على حمايته.
ونوه غيتس الى حقيقة خطيرة تهدد مستقبل القوة العسكرية الاميركية وهي ان شريحة ضيقة من سكان الولايات المتحدة هي التي تحملت عبء القتال في افغانستان والعراق وان هذه الشريحة تنحدر من المناطق الريفية الفقيرة في ولايات الجنوب والغرب الاميركي وتتركز تحديدا في خمس ولايات هي تكساس وواشنطن وجورجيا وكنتاكي ونورث كارولينا وهذا تحول في بنية القوات المسلحة الاميركية يؤدي الى فاصل هائل بين هؤلاء السكان وسكان الحضر الذين يمثلون باقي الولايات. هذه الظاهرة – كما قال غيتس – أدت الى زيادة نسبة الانتحار بين صفوف الجنود الاميركيين وأدت الى زيادة الضغوط على أسرهم.
هذا الانذار الخطير الذي اعلنه وزير الدفاع الاميركي يؤكد ما أشارت اليه تقارير كثيرة سابقة تحدثت عن الانهيار النفسي لدى معظم المقاتلين الذين شاركوا في حروب افغانستان والعراق وان هؤلاء ينتمون للطبقات الفقيرة في المجتمع الاميركي فمن بين عشرات الدراسات التي تحدثت عن الانهيار النفسي الذي اعترف وزير الدفاع الاميركي بتعرض كثير من الجنود له نشر ارون غلانتز في 22 مايو من العام 2007 تقريرا على موقع المركز الدولي لدراسات اميركا والغرب نقل خلاله عن الطبيبة النفسية كارين سيل التي تعمل في مركز سان فرانسسكو للمحاربين القدماء قولها لشبكة «انتر برس سيرفس» انها أعدت دراسة هي وزملاؤها عن الجنود الاميركيين العائدين من حرب العراق وافغانستان وقد كشفت هذه الدراسة ان «اكثر من ثلث الجنود الاميركيين العائدين من الحرب والبالغ عددهم 100 ألف جندي بين 20 سبتمبر 2001 وحتى 30 سبتمبر 2005 شوهدوا في مراكز شؤون المحاربين حيث كانوا مصابين بأمراض عقلية أو بمشكلات اجتماعية نفسية مثل الشعور بالتشرد والغربة، أو كانوا يعانون من مشكلات زوجية، من بين ذلك العنف المنزلي، على أن النصف منهم كان يعاني من أكثر من مشكلة نفسية».
لكن الأخطر كان التقرير الصادر عن المفتش الصحي العام في الولايات المتحدة الذي أكد على: «أن معدلات الانتحار في صفوف الجنود الأميركيين العائدين من العراق وأفغانستان في ارتفاع مطرد، بسبب التقصير في العناية الطبية التي تقدمها العيادات النفسية المخصصة لهم، وفشلها في منحهم عناية نفسية على مدار الساعة.
وانتقد التقرير افتقار بعض تلك العيادات إلى تشخيص ملائم للحالات النفسية التي تصيب الجنود، إلى جانب نقص الخبرات لدى الأطقم الطبية العاملة، ما رفع حالات الانتحار لدى الجنود الذين يقصدون تلك العيادات إلى 1000 جندي سنويا من أصل 5000 جندي سابق ينتحر كل عام».
وهذا يعني أن عدد الجنود الذين انتحروا بعد عودتهم من أفغانستان والعراق يفوق بكثير أعداد الجنود الذين تم الإعلان عن قتلهم في ساحة المعركة وهذا ما لا يتم الإشارة إليه أو الاهتمام به أو الإعلان عنه.
هذا الوضع دفع الإدارة الأميركية إلى التعامل مع الشركات الأمنية الخاصة كبديل للجنود لاسيما في المواجهات الساخنة، وقد أجرت لجنة الخدمات الدفاعية في الكونغرس الأميركي تحقيقا حول دور الشركات الأمنية التي يتم التعاقد معها في أفغانستان والتجاوزات التي تقوم بها نشر في الثامن من أكتوبر الجاري حيث خلص التحقيق إلى وجود 26 ألفا من المرتزقة التابعين لهذه الشركات يعملون مع القوات الأميركية في أفغانستان، وكانت تقارير أخرى قد أشارت إلى أن عدد المرتزقة العاملين في العراق تخطى حاجز المائة ألف في بعض الأحيان، وأن نسبة من الأموال التي تحصل عليها الشركات التي يعمل هؤلاء لديها في أفغانستان تصب إما في جيوب أمراء الحرب أو قادة طالبان، مما يعني حسب التقرير أن جزءا من أموال دافعي الضرائب الأميركيين تصب في النهاية في جيوب قادة حركة طالبان العدو اللدود للادارة الأميركية.
وهذا يؤكد حجم الفشل الذي تواجهه هذه القوات والذي أدى إلى خلافات داخل البيت الأبيض دفعت مستشار الأمن القومي للرئيس أوباما الجنرال جيمس جونز إلى تقديم استقالته في الثامن من أكتوبر الجاري.
هذه المعطيات تؤكد على ما أشار إليه المؤرخ الأميركي البارز جون كيندي في أكثر من حوار أجريته معه بعد الحادي عشر من سبتمبر على أن الانفاق العسكري الهائل والتمدد العسكري هما السبب الأول لانهيار الإمبراطوريات الكبرى على مدار التاريخ، وأن حجم النفقات والتمدد العسكري للولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر سيقودها في النهاية إلى المصير المحتوم وإن كان ذلك يستغرق بعض الوقت لكن الملاحظ أن هناك سرعة كبيرة في هذا الانهيار عبر عنها وزير الدفاع غيتس بوضوح تام لأن الانهيار يأتي أولا من انهيار الجندي المقاتل ولذلك فمهما بلغت القوة العسكرية للولايات المتحدة فإن هذا لا يعني أنها ستبقى متربعة على عرش القوة، لأن الجندي الأميركي في النهاية إن لم يكن قد انهار فهو في طريقه إلى الانهيار.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

لبنان يندفع نحو مستقبل مجهول

التالي

نذر حرب اقتصادية بين أميركا والصين

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share