عقد التراجع الأميركي

«إن الولايات المتحدة قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001 لن تكون هي الولايات المتحدة بعد ذلك» هذا ما كتبه المؤرخ الأميركي بول كيندي بعد أيام قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحينما سألته في حوار أجريته معه بعد ذلك عن عوامل انهيار الأمبراطوريات العظمى قال كيندي: «عادة ما تبدأ الأمبراطوريات العظمي بالانهيار بعد زيادة نفقاتها العسكرية وتعدد حروبها وتوسعها العسكري الذي يستنزف ثروتها ويحولها إلى دولة عاجزة عن الالتزام بالتمدد الامبراطوري من ثم تبدأ بالانكماش وتبدأ مرحلة الانهيار، وفي كثير من الأحيان تنهار الأمبراطوريات بأسلحة بسيطة وقوى صغيرة وليس بالضرورة من خلال قوى عظمى تواجهها» وحينما سألته عن الولايات المتحدة ومستقبلها الامبراطوري قال: «إن الولايات المتحدة بحاجة إلى مزيد من الوقت حتى تبدأ عوامل الشيخوخة والتصدع تظهر عليها وأعتقد أنها تستطيع البقاء على عرش القوة ثلاثة أو أربعة عقود «هذا ما قاله بول كيندي قبل وقوع الانهيار الاقتصادي العالمي وتسريبات ويكيلكس والعجز العسكري الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، لكني أعتقد أن كيندي الذي أسعى لترتيب لقاء جديد معه لتقديم قراءة جديدة للمستقبل الأميركي بعد نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لن يكرر ما قاله لي قبل عدة سنوات، وإذا كان المؤرخون يقيسون بروز القوى الكبرى وتصاعدها بالعقود لا السنوات فقط على اعتبار أن نهضة القوى العظمى عادة ما تستمر عدة عقود وربما قرون فإني أعتقد أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين والذي ودعناه قبل أيام سيكون عقد التراجع الأميركي بامتياز، فأحداث الحادي عشر من ستبمبر في العام 2001 زلزلت الأمبراطورية الأميركية من داخلها وكانت أول عملية تضرب عمق الولايات المتحدة حيث ان أحداث بيرل هاربر في نهاية الحرب العالمية الثانية التي هاجم فيها اليابانيون السفن الحربية الأميركية في هذا الميناء بعيدة إلى حد كبير عن العمق الأميركي، وقد جرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الولايات المتحدة إلى حربين طويلتين كانتا بمثابة استنزاف كبير لقوتها وقوة حلفائها، بدأت الأولى بعد أيام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وكانت ضد نظام طالبان في أفغانستان حيث لازالت قواتها إلى الآن تواجه مقاومة شرسة وقد غرقت مع حلفائها في جبال أفغانستان ووديانها ولا تعرف ما هو المخرج من هذا المأزق، الحرب الثانية بدأتها في مارس من العام 2003 ضد نظام صدام حسين وقد نجحت في إزالة صدام لكنها فشلت حتى الآن في مشروعها المعلن الذي غزت العراق من أجله، وبمعايير المؤرخ الأميركي بول كيندي فقد استنزفت تلك الحروب الطاقة العسكرية والمالية للولايات المتحدة وأنهكتها إلى حد بعيد، فحجم ما استخدمته الولايات المتحدة من معدات عسكرية وأسلحة وذخائر ربما يفوق ما استخدمته في حروبها السابقة لاسيما في أفغانستان وجبالها حيث طورت كثيرا من الأسلحة التي أنفقت عليها عشرات المليارات من الدولارات مثل القنابل التي تخترق أعماق الجبال أو الصواريخ التي تدك المغارات والسراديب أو أسلحة أخرى كثيرة محرمة دوليا لم يكشف عنها بعد وألقت بها على الأفغان في محاولة للنيل من أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة أو الملا عمر قائد حركة طالبان، لكن كلا الرجلين لازالا ينهكان القوة العسكرية الأميركية بأسلحة بسيطة وتكلفة محدودة تماما كما يقول بول كيندي، ويكفي أن نعلم أن حرب الثلاثة ترليونات دولار حسب تقديرات الخبراء الاقتصاديين الأميركيين لم يقابلها نفقات من الطرف الآخر تزيد على عدة ملايين من الدولارات، حيث أشار الخبراء إلى أن عملية الحادي عشر من سبتمبر لم تزد تكلفتها عن مليون دولار، كما أن الأسلحة الفتاكة التي تستخدمها الولايات المتحدة وتكلف عشرات المليارات من الدولارات تقابلها أسلحة بسيطة لا تتكلف سوى آلاف الدولارات، وقد أشارت تقديرات الخبراء الاقتصاديين الأميركيين إلى أن الولايات المتحدة قد خسرت خمسمائة مليار دولار جراء القيود التي وضعتها على نظام التأشيرات التي تمنحها للأجانب الذين كانوا يتوافدون بالملايين على الولايات المتحدة من أنحاء العالم فينعشون اقتصادها في كافة المجالات، ويؤكد الخبراء كذلك على أن النفقات العسكرية الأميركية والحروب التي تقوم بها في كل من أفغانستان والعراق علاوة على عوامل أخرى لعبت الدور الرئيسي في الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدات إلى انهيار السوق المالي الأميركي ومن ثم السوق المالي العالمي الذي أصبح مرتبطا به إلى حد بعيد، وإذا كان بعض الخبراء يشيرون إلى ان الولايات المتحدة بدأت تتعافى فإن تصريحات المسؤولين الأميركيين لاسيما المعارضين الجمهوريين تشير إلى أن الدين العام الأميركي في طريقه إلى التصاعد ويمكن أن يلامس الناتج العام وهنا مكمن الخطورة العظمى، فعدد البنوك الأميركية التي أشهرت إفلاسها في العام 2010 زادات على مائة وأربعين بنكا، وهذا يؤكد على أن الأزمة لازالت في بداياتها وأن القادم أسوأ، وأن عدد العاطين عن العمل في الولايات المتحدة لاسيما من أصحاب الوظائف البنكية والصناعية هم في تصاعد كبير وقد نشرت كثير من الصحف الأميركية تقارير عن شخصيات ترتدي ملابس من بيوت الأزياء العالمية تقف في طوابير الحصول على الطعام المجاني لأنهم باختصار فقدوا وظائفهم ومنازلهم وربما زوجاتهم وأولادهم ولم يبق لهم من ثروتهم إلا بعض الملابس من أيام العز يستدفئون بها من برد الشتاء القارص الذي يعصف ببلادهم وانضموا إلى قائمة الخمسين مليون فقير في الولايات المتحدة التي تتربع على عرش القوة العالمية خلال عقد واحد، لكن هذا العقد أبى أن ينقضي دون أن تحقق الولايات المتحدة واحدة من أكبر خسائرها الدبلوماسية والسياسية في تاريخها ألا وهي الوثائق التي حصل عليها موقع ويكيليكس وبدأ تسريبها خلال النصف الثاني من العام 2010 واعتبرت بمثابة قنبلة نووية معلوماتية فجرت البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية من داخلها وجعلت جانبا مهما من أسرارها يباع على قارعة الطريق، وقد ذكرني هذا بانهيار نظام صدام حسين حيث كانت وثائق النظام بكل ما فيها حتى التقارير الاستخباراتية تباع على قارعة الطريق وأحيانا مجانا لمن يريد وقد كنت محظوظا أن حصلت على كم كبير منها نشرت بعضه في كتابي «قصة سقوط بغداد»، ومن هنا فإن المؤرخين الذين سيكتبون عن انهيار الأمبراطورية الأميركية فيما بعد سيقفون طويلا أمام العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لانه بحق عقد ما قبل إعلان الانهيار والسقوط.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
وليد حاج

وليد حاج أحد معتقلي جوانتنامو يرد على تساؤلات المشاهدين حول شهادته على العصر

التالي

تونس.. الطريق إلى الحرية

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share