«أوجه الاتهام إلى الرئيس التونسى زين العابدين بن على وأجهزة مخابراته».. هكذا جاوبت قاضى التحقيق الفرنسى فى الدائرة الرابعة عشرة للشرطة القضائية فى باريس ردا على سؤاله لى حينما سألنى من اتهم بسرقة حقائبى من أمانات الفندق، الذى كنت أقيم فيه فى باريس فى ذلك الوقت، رفع قاضى التحقيق رأسه ونظر إلىّ مركزا عينيه فى عينى وكأنما يستغرب أو يستفهم ويريد التأكد مما قلته ثم أعاد سؤاله علىّ مرة أخرى «من تتهم بسرقة حقائبك؟» فأجبته بكل ثقة وتأكيد مكررا جوابى ومضيفا إليه «إنى أتهم الرئيس التونسى زين العابدين بن على وأجهزة مخابراته بسرقة حقائبى، وإنى أؤكد هذا الاتهام بعد مشاهدتى للفيلم، الذى يظهر عملية السرقة والذى شاهدته معك الآن «صمت قاضى التحقيق قليلا ثم أعاد نظره دون أن يتحدث هذه المرة فقلت له: «أرجو أن تدون اتهامى وبشكل واضح للرئيس بن على وأجهزة مخابراته، فربما كان لدى شك بنسبة قليلة قبل أن أشاهد الشريط، الذى سجلت عليه عملية السرقة لكن بعد مشاهدتى للشريط لم يعد لدى شك بل أنا متأكد بنسبة مائة فى المائة، وأريد أن أزيدك شيئا أعتقد أن حقائبى الآن فى تونس ولم تعد موجودة فى باريس».
ما كان على قاضى التحقيق بعد اتهامى الواضح للرئيس التونسى آنذاك وأجهزة مخابراته سوى أن يسجل اتهامى استكمالا لأقوالى، التى استمرت ما يقرب من خمس ساعات، حيث كان يرافقنى صديقى وزميلى عياش دراجى مراسل الجزيرة فى باريس، الذى كان يقوم بالترجمة بينى وبين قاضى التحقيق الفرنسى، ووقع معى فى النهاية على محضر التحقيق.
لم يكن هذا سوى الفصل قبل الأخير من القصة، قصة الرئيس، الذى سرق أموال شعبه وذهبه وأحلامه وآماله وحضارته وتاريخه، ثم قرر عبر أجهزة استخباراته أن يسرق حقائبى من أحد فنادق باريس وليس تونس ليشير إلى مساحة الفجر والطغيان، التى كان قد وصل إليها لكن القصة كان لها بداية أخرى.
شاهد على العصر
بدأت القصة قبل ما يقرب من عامين حينما كنت أنقب كما أفعل دائما عن بعض الشخصيات التونسية، كما أنقب عن غيرها من صناع القرار السابقين فى العالم العربى لبرنامجى التليفزيونى «شاهد على العصر»، حيث سبق أن قدمت فيه شاهدين من تونس أولهما رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالى، الذى قمت بالتسجيل معه قبل نحو عشر سنوات، حيث كان يقيم فى باريس لاجئا بعد هروبه من تونس فى نهاية عهد الرئيس بورقيبة، ثم مع وزير داخلية بورقيبة الطاهر بلخوجة، والذى يقيم بين تونس وباريس، وكلا الرجلين سجلت حلقاتهما فى لندن، حيث كانت الإمكانات الفنية للتسجيل أفضل من باريس فى ذلك الوقت، وأذكر أن حلقات مزالى حينما بثت أزعجت بن على ونظامه إزعاجا كبيرا رغم أنها كانت عن بورقيبة وليس عن بن على، إلا أن بن على ظل طوال سنوات حكمه يخشى من أن ينشر خبر أو تقرير عن نظامه حتى إن العمل الرئيسى للسفراء التونسيين خارج بلادهم هو رصد كل ما ينشر عن بن على ونظامه والرد عليه، وكثير منهم لم يكونوا سوى مندوبين للدفاع عن بن على ونظامه كلما نشر شىء مشين عنه وعن نظامه غير أن هناك ضربتين قاصمتين تعرض لهما بن على، ولم يستطع سفراؤه ولا حتى نظامه كله أن يواجههما، الأولى كانت فى عام 1999 حينما صدر فى باريس كتاب «صديقنا بن على»، الذى كتبه الصحفيان الفرنسيان جان بيير تيكوا ونيكولا بو، وكتب مقدمته الكاتب الفرنسى الشهير جيرل بيرو صاحب الكتاب الرائع «صديقنا الملك»، الذى دون فيه سيرة ملك المغرب الراحل الحسن الثانى لاسيما جرائمه، التى ارتكبها ضد شعبه، حتى إن السلطات المغربية قامت بشراء مئات الآلاف من النسخ من الكتاب منعا من وصوله إلى الناس، لكن الكتاب وصل وترجم إلى كثير من اللغات منها العربية، وأعتقد أنه يباع ويوزع فى المغرب الآن فى عهد ابنه محمد السادس، الذى أباح نشر الكثير من سوءات الحسن الثانى وسنواته، التى أطلق عليها اسم «سنوات الرصاص»، كان صدور كتاب «صديقنا بن على» فى باريس لاسيما بما حواه من تفاصيل عن الفساد السياسى لــ«بن على» واتهام شقيق بن على فى قضية مخدرات كبيرة فى فرنسا، قيل إن بن على له صلة بها مثل ضربة قاصمة للرجل، الذى كان يعانى من نشر أقل خبر عنه أو عن عائلته، الضربة القاصمة الثانية كانت فى عام 2009 حينما صدر كتاب «سيدة قرطاج» وكان يحوى فضائح زوجة بن على مصففة الشعر ليلى الطرابلسى، التى استباحت مع عائلتها ثروات الشعب التونسى واستولت مع أقاربها على كل ما يتصل بالثروة فى البلاد، ثم ختمت مسيرتها بسرقة طن ونصف الطن من احتياطى تونس من الذهب من البنك المركزى حسبما ذكرت الصحف الفرنسية، غير أن «قناة الجزيرة» وقنوات وصحف عربية أخرى مثلت سرطانا لــ«بن على» ونظامه فكل سفير تونسى يأتى للدوحة لم يكن له عمل سوى مراقبة ما تبثه «قناة الجزيرة» والرد عليه حتى إن أحد هؤلاء السفراء، قال: «لقد اختزل عملى كله فى مراقبة قناة الجزيرة والرد على ما تقوله على «بن على» وحكومته».
أعود إلى قصة البحث عن شاهد تونسى على العصر، حينما استعرضت أهم الشخصيات التى بقيت من نظام بورقيبة وجدت أن معظمهم يعيش داخل تونس، ومن الصعب عليهم أن يخرجوا، كما أنه من الصعب علىَّ أن أذهب إلى تونس لأن قناة الجزيرة كانت ممنوعة من العمل هناك، ومن ثم فأنا شخص غير مرغوب فيه وروى لى زملاء كيف كان الأمن التونسى يرصدهم من أول دخولهم إلى المطار حتى يخرجوا بشكل يؤكد طبيعة دور الدولة البوليسية، ولم يكن أى منهم يذهب للعمل وإنما زيارات سياحة أو عائلية، ومع ذلك كانوا يتعرضون للمضايقات، أخيرا علمت أن مدير الأمن والمخابرات التونسى الأسبق أحمد بنور الذى يقيم فى باريس، والذى يعتبر اللاجئ الوحيد من عهد بورقيبة المقيم خارج تونس ولم يسمح له بن على بالعودة، بل إن الأمر أخطر من ذلك لقد تعرض بنور لتهديدات كثيرة بالقتل بشكل غير مباشر من نظام بن على ولم تتوقف هذه التهديدات حتى وقت قريب وأن الصحف الصفراء المقربة من بن على لا تكف عن ذكر بنور بالسوء واتهامه بأنه عميل للموساد، وأنه قد حكم عليه بالقتل من منظمات فلسطينية، وكما أخبرنى بنور أن هذا كان تغطية لما يمكن أن تقوم به مخابرات بن على ضده مما جعل السلطات الفرنسية تتدخل وتبلغ بن على ومخابراته أن بنور خط أحمر، ولأن بنور فقد الأمل فى العودة إلى تونس، وكذلك فى أن يبقى صامتا فوافق على أن يدلى بشهادته على العصر، وقد بدأت اتصالاتى مع بنور منذ ما يقرب من عامين، وقمت بزيارة باريس للتحضير للحلقات من خلال جلسات استماع مطولة استغرقت منى ما يقرب من أسبوعين كنا نقضى فيها وقتا طويلا على مقاهى باريس وأحيانا نمشى فى شوارعها، وذهبت له فى بيته أكثر من مرة، حيث يقع بيته فى شارع قريب من شارع الشانزلزيه الشهير وسط باريس، وخلال هذه الجلسات كنت أريد أن أفهم سر العداوة الشديدة، التى يكنها بن على لأحمد بنور مما جعل بنور الذى كان سفيرا لتونس فى روما خلال عهد بورقيبة يطلب اللجوء السياسى لباريس فى العام 1986 هربا حينما كان بن على وزيرا للداخلية ثم رئيسا للوزراء فى حياة بورقيبة رافضا العودة إلى تونس لأنه أدرك أن بن على يريد التخلص منه منذ ذلك الوقت لأسباب كثيرة، من أبرزها أن بنور الذى كان رئيسا لــ«بن على» أكثر من مرة كان لديه الملف الأسود لسيرة بن على وسلوكياته وعلاقاته، أما الأمر الآخر الذى زاد كراهية بن على لبنور هو أن بنور كرجل أمن ومخابرات كان ذكيا فى حربه على بن على بعدما استولى «بن على» على السلطة من بورقيبة، لم يظهر بنور مباشرة فى مشهد الحرب على «بن على» ولكنه سعى لإخراج ثلاثة كتب عن «بن على» ونظامه مع كتاب وصحفيين فرنسيين لأنه أدرك كيف ينزعج بن على من تناوله فى الأخبار أو الصحافة، الكتاب الأول كان «صديقنا بن على»، الذى أشرنا إليه آنفا وصدر فى عام 1999 والكتاب الثانى كان «سيدة قرطاج»، الذى صدر فى عام 2009، أما الكتاب الثالث فلم يخرج بعد وكان عن العدالة فى تونس فى عهد بن على. من هنا أدركت سر الكراهية الشديدة، التى يكنها بن على لأحمد بنور وأنه يريد التخلص منه بأى طريقة، وقد جمعت من بنور من المعلومات فى جلسات الاستماع، التى كان أغلبها على مقاهى باريس وفى حدائقها وشوارعها مما جعلنى أدرك أننى أمام كنز من المعلومات لا يجب التفريط فيه.
كنت أقوم بعملى بعفوية تامة وأتحرك بشكل تلقائى فأنا فى باريس ولست فى تونس لكننى لم أكن أدرك أن بن على قد مدد عمل أجهزة مخابراته خارج تونس، وتحديدا فى باريس وفرنسا بشكل عام، حيث توجد الجالية المعارضة الأكبر لنظام حكمه من أساتذة جامعات وسياسيين وطلاب وغيرهم من شتى المشارب، ومن ثم أقام هناك كما علمت من عدة مصادر شبكة استخباراتيه تراقب وترصد معارضيه وتعتدى عليهم أحيانا، حيث تعرض كثير من المعارضين لاعتداءات عنيفة قيدت ضد مجهول، وتنتشر هذه الشبكة، التى تتكون من نحو سبعمائة عنصر فى الفنادق والمطاعم وسائقى تاكسى ومالكى بقالات أو بائعى خضراوات، ومن المؤكد أن بنور الذى كان يعتبر العدو اللدود لــ«بن على» كان مراقبا بشكل دقيق من قبل استخبارات بن على فى باريس، ومن ثم كل من يلتقى معه كان يرصد، وقد أدركت بعد ذلك أن كل لقاءاتى مع الرجل كانت مرصودة من مخابرات بن على حتى المقاهى، التى كنا نجلس عليها أو الشوارع التى كنا نمشى فيها رغم أننا فى باريس ولسنا فى تونس، أنهيت جلسات الاستماع مع الرجل وزودنى بصور مستندات من بعض أوراقه الخاصة، واشتريت بعض الكتب التى كنت فى حاجة إليها بعضها بالفرنسية أملا فى أن أجد من يترجمها واتفقت معه على تحديد موعد للتصوير فى شهر أغسطس الماضى 2010، وعدت بالفعل إلى باريس فى الموعد المحدد لكننى لم أكن أعتقد أننى سأتعرض لكمين يحوى كل أشكال الخسة والنذالة والحقارة من أجهزة استخبارات بن على فى الفندق ذى الخمس نجوم الذى اخترت الإقامة فيه خلال فترة التسجيل.
«….. نكمل فى الأسبوع المقبل»