الجريمة الأخيرة لجهاز أمن الدولة

لا أعتقد أن هناك مصريا لم ينله الأذى بشكل أو بآخر من جهاز مباحث أمن الدولة الذي تحول من جهاز للمعلومات إلى جهاز يدير الدولة ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المصريين، بدءا من الحصول على وظيفة كناس في الشارع وحتى أعلى مناصب الدولة، فموافقة أمن الدولة كانت أساسية لكل شيء فإذا أراد أستاذ جامعي أن يذهب لمؤتمر خارج مصر عليه أن يحصل على موافقة أمن الدولة، إذا أراد طالب أن يقيم في المدينة الجامعية عليه أن يحصل على موافقة أمن الدولة، إذا أراد شخص متفوق الأول على دفعته أن يصبح معيدا في الجامعة عليه أن يحصل على موافقة أمن الدولة وقد فقد عشرات الآلاف من المصريين حقهم في الحصول على وظائف بموجب تفوقهم بسبب جهاز مباحث أمن الدولة ، إذا أراد موظف يعمل خارج مصر أن يحصل على تصريح عمل عليه أن يحصل على موافقة أمن الدولة وكم فقد عشرات الآلاف من المصريين فرص عملهم خارج بلادهم بسبب جهاز مباحث أمن الدولة، لقد كان هناك ما يزيد على خمسة ملايين مصري مدرجين على قوائم السفر والوصول في منافذ مصر البرية والبحرية والجوية يتعرضون لكل أشكال الإهانة من مباحث أمن الدولة في سفرهم ووصولهم بينهم أساتذة جامعات وعلماء مرموقون وأناس بسطاء عاديون، يبدأ عذابهم من الانتظار لساعات طويلة في المطار حتى يأذن لهم أمن الدولة بدخول بلدهم وينتهي الأمر بمنع الكثيرين منهم من السفر رغم حصولهم على أحكام قضائية كان أمن الدولة يضرب بها عرض الحائط.
لقد تغول جهاز أمن الدولة على كل شيء في حياة المصريين، ولم يترك أحدا لم يعرضه للأذى بدءا من الأذى المعنوي وحتى الأذى المباشر بالتعذيب الذي كان كثيرا ما يصل إلى مرحلة القتل تحت التعذيب حيث تشير التقارير القانونية إلى وفاة عشرات المصريين تحت التعذيب في معتقلات أمن الدولة خلال السنوات الماضية ، كل أشكال البشاعة في التعذيب مورست في أجهزة مباحث أمن الدولة بل إن الأمر تخطى ذلك أن كان جهاز مباحث أمن الدولة يقوم بتعذيب المعتقلين وانتزاع الاعترافات منهم لصالح دول صديقة للنظام المخلوع في مصر مثل الولايات المتحدة الأميركية التي أكدت وثائق سرية كثيرة أن جهاز مباحث أمن الدولة في مصر قام بتعذيب كثير من معتقلي غوانتانامو وغيرهم لصالح الولايات المتحدة، لأن القوانين في الولايات المتحدة لا تسمح بالتعذيب.
هذه الأسباب وغيرها جعلت ثوار 25 يناير يضعون على رأس مطالبهم حل جهاز مباحث أمن الدولة ومحاكمة ضباطه ، لكن الاستجابة لهذا المطلب لم تتم، وكانت الفرصة التي منحت للجهاز وضباطه منذ اندلاع الثورة في 25 يناير وحتى سقوط المقرات الرئيسية لجهاز مباحث أمن الدولة في كل من القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن الأخرى في أيدي الثوار ومن تسليم مقراتها للجيش في الخامس والسادس من مارس الجاري كفيلة بأن يقوم ضباط الجهاز بإتلاف عشرات الآلاف من الوثائق التي تدينهم أو تدين كبار المسؤولين في النظام الفاسد البائد نظام حسني مبارك، فحينما تمكن الثوار من دخول مقرات أمن الدولة أولا في الإسكندرية ثم في مدينة السادس من أكتوبر ثم المقر الرئيسي في مدينة نصر في القاهرة ثم المقر سيئ الذكر في منطقة لاظوغلي الملاصق لوزارة الداخلية فوجئوا بكم هائل من الوثائق تم فرمها في ماكينات خاصة حتى لا يتمكن أحد من ملاحقة ضباط الجهاز أو التعرف على طبيعة الأعمال القذرة التي كانوا يقومون بها طوال السنوات الماضية، يروي لي شاهد عيان تمكن مع خمسة آخرين من شباب الثورة رافقوا ضباط القوات المسلحة مع ممثل للنيابة العامة في مصر ودخلوا المقر في لاظوغلي بأنهم صدموا حينما وجدوا سلالم المبنى وكافة الغرف مليئة بأكوام من الوثائق المفرومة في ماكينات خاصة، حتى أنه قال لي «لقد عقد الذهول ألسنتنا ولم نتخيل حجم الجريمة التي ارتكبت بحق هذا الشعب من قبل هذا الجهاز حيث أنها الجريمة الأكبر لأنها تقوم على إخفاء معالم جرائم الجهاز طوال العقود الماضية» أما في مدينة نصر حيث المقر الرئيسي للجهاز فقد فوجئ الثوار الذين دخلوا المبنى في الرابعة عصرالخامس من مارس أن المبنى كان خاليا ولايوجد فيه حتى جندي واحد، وقد اتصل بي أحد الثوار وقال لي «أنا أحدثك من غرفة مدير جهاز مباحث أمن الدولة، لقد شاهدت بعض فناجين القهوة التي لم تشرب، وأجهزة كمبيوتر لم تغلق وبعض الأكواب بها عصير وخلافه لقد فروا من الجهاز جميعا» لكن الجريمة الأكبر أنهم لم يكتفوا بإبادة الوثائق التي تدينهم فحسب ولكنهم تعمدوا أن يتركوا ملفات كثير من الشخصيات العامة والإعلاميين لاسيما المعارضين للنظام مفتوحة حتى ينشغل الناس بما فيها من افتراءات وأكاذيب وينصرفوا عن الجريمة الأكبر وهي جريمة إخفاء معالم الجرائم التي ارتكبها ضباط الجهاز وقادته طوال العقود الماضية عبر فرم الوثائق التي تدين الجميع وقد لوحظ أن الملفات الخاصة بكبار الفاسدين في الدولة قد أبيدت، لقد ارتكب جهاز أمن الدولة على مدى عشرات السنين فظائع رهيبة بحق المصريين لكن الجريمة الأكبر التي ارتكبها القائمون على هذا الجهاز الشرير هي أنهم حرقوا أو أبادوا الأدلة التي تدينهم والأمر الثاني هو إشاعة الأكاذيب والتلفيقات من خلال الملفات الخاصة بعشرات الآلاف من المصريين لاسيما الشخصيات العامة والتي تركوها حتى تقع في أيدي الناس حتى يشيعوا الأكاذيب في المجتمع ويصرفوا الناس عن جرائم الجهاز الحقيقية، لقد سقط هذا الجهاز المريع وسقط كل العاملين فيه لكن هذا لا يكفي ولن تنجح الثورة إلا بعد محاكمة هؤلاء على جرائمهم التي ارتكبوها بحق هذا الشعب وعلى رأسها جريمة تدمير الأدلة.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق

تطهير البلاد.. المهمة الكبرى للثورة المصرية (2)

التالي

الشهيد علي حسن الجابر

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share