قصة كتائب القذافي

الدفاع المستميت لما يسمى «بكتائب القذافي» في ليبيا حتى آخر رجل يلقي علامات استفهام كثيرة وكبيرة حول المكونات الأساسية لرجال هذه الكتائب، والأسباب التي تدفعهم للقتال في معركة خاسرة حتى الـنهاية بعد سقوط القذافي ونظامه، شغلني الأمر كثيرا وأنا أجوب أحياء العاصمة الليبية طرابلس وكذلك أحياء مدينة بنغازي التي اندلعت منها الثورة والمعسكر الكبير للكتائب الذي كان يحتل مساحة كبيرة في المدينة وكان كالقلعة الحصينة، حيث دمره الثوار بعد الاستيلاء عليه وأزالوا مساحة شاسعة من أسواره، فلم أكن معنيا بما هو منشور عن الكتائب بقدر ما كنت معنيا بمعرفة ما يتداول وراء الكواليس عن الكتائب ومكوناتها.
السيرة الذاتية لاثنين وأربعين عاما من حكم معمر القذافي لليبيا تظهر رجلا سوداوي النفس والقلب يكره الشعب الليبي من قلبه، لم يترك صفة من الصفات البذيئة والكريهة لم يرم بها شعبه في خطابات معلنة، حيث وصفهم بأقذع الأوصاف ولعل جولة يقوم بها أي زائر حتى للعاصمة طرابلس ليرى الشوارع المقفرة والاهمال المتعمد للشعب الليبي أما في المدن الأخرى والقرى فإن الفقر والعوز والفاقة وكل مظاهر البشاعة في الحياة تتجلى واضحة في حياة الناس في بلد لا يزيد سكانه عن سبعة ملايين ويعد واحدا من أغنى دول العالم ليس فقط بالنفظ، وإنما بموارد الطبيعة الخلاقة الأخرى، فالمناطق الشرقية في ليبيا زاخرة بالآثار الرومانية القديمة والشلالات والأنهار الصغيرة والمناطق الخضراء ولعل الجبل الأخضر يعكس حجم النعم الكبيرة التي تنعم بها تلك البلاد الشاسعة.
بالنسبة للمشرق أغرق القذافي المنتجع الرئيسي لأهل بنغازي وهي بحيرة بنغازي بالمجاري حيث فتح عليها مصارف الصرف الصحي طيلة ما يقرب من ثلاثين عاما فتحولت إلى مرتع للأمراض والروائح الكريهة التي دمر بها حياة الشعب، كما أزال كافة المباني والقصور القديمة التي تدل على العصور الزاهرة قبله وأبقى القليل منها، أما الزراعة فقد أهملها ودمرها، ولم يوجه الأموال لرفاه شعبه وإنما لدماره، ولأن الليبيين أهل نخوة وعزة فقد قامت ضد القذافي عشرات المحاولات الانقلابية والانتفاضات فكان يئدها بدموية لا نظير لها، كم أعدم من الطلاب داخل حرم الجامعات أمام زملائهم، وكم أعدم من العسكر داخل الثكنات وكم أعدم من كل فئات الشعب المختلفة في الساحات والميادين وكان يصف الخارجين عليه بـ «الكلاب الضالة» ولعل جريمة سجن أبو سليم التي قتل فيها أكثر من ألف ومائتين وستين سجينا وهم عزل خلال ساعات عام 1996 دليل على البشاعة والدموية التي كان يتصف بها القذافي، هذه الوسائل السادية جعلت القذافي يفكر في النوعيات التي يستخدمها لممارسة هذا القمع وهذه الدموية، فاختار من بين القبائل الليبية من هم أكثر ولاء له سواء من قبيلته أو من القبائل الأخرى وأغدق عليهم الأموال والامتيازات لكن هذا لم يكن كافيا لأن هناك من كان يعارضه أيضا داخل هذه القبائل وهناك من كان يرفض أن يتحول إلى قاتل لأبناء بلده، فاهتدى إلى الأسلوب الأقذر الذي كانت تستخدمه الأنظمة الشيوعية البائدة ولايزال يستخدم حتى الآن في كثير من دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وهو المجيء بالأيتام من الملاجئ وإدخالهم في مقتبل عمرهم إلى محاضن عسكرية خاصة وتنشئتهم على الولاء المطلق بطريقة تجعلهم لا يرون من الدنيا سوى صورة الزعيم أو ما يريده وترسخ لديهم الكراهية الشديدة لكل ما سواهم من البشر، حتى أنهم يكرهون أنفسهم، وما عليهم سوى أن يقوموا بتنفيذ كل ما يصدر إليهم من أوامر، فيعاملون كمنبوذين لا أهل لهم وينشؤون على كراهية البشر، ويتم إغراقهم في الشهوات والملذات وإبعادهم عن كل ما يمت للإنسانية من أخلاق ومواصفات، ولأن ليبيا لم تكن كافية لتحقيق رغبات القذافي بأعداد كافية من هؤلاء الذين عادة ما يكونون من اللقطاء كان يتم جلبهم من الدول الأفريقية ومن أوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وأنحاء متفرقة من العالم ولأنه يجب أن يكون هناك غطاء لهؤلاء فقد كان الغطاء عبارة عن مؤسسات أيتام دولية أسسها القذافي لتقوم بجلب هؤلاء إلى ليبيا على أنها ترعاهم، وكانت تفاصيل كل هذه العمليات سرية للغاية، وكان يجلب هؤلاء إلى تلك المحاضن ويقوم رجال مدربون جلبهم القذافي من أنحاء الدنيا بإعداد هؤلاء ليكونوا خط الدفاع الرئيسي لرجل كان يكره شعبه ويعرف أن شعبه يوما ما سيثور عليه ويجلبه إلى ساحة العدالة من ثم يجب أن يكون لديه جيشه الخاص الذي يدافع عنه إلى آخر رجل، نجح القذافي بشكل كبير في تحقيق مراده ولأنه كان يعبث بكل شيء فقد نسب هؤلاء اللقطاء الذين جلبهم من أنحاء الدنيا ِإلى القبائل الليبية الأصيلة وأصدر لهم الشهادات والوثائق التي تدل على الهويات الجديدة التي منحها لهم وجعلهم ينخرطون بالدرجة الأولى في كافة الجهات الأمنية والعسكرية وأنشأ لهم كتائب خاصة جعل لكل واحد من أولاده كتيبة تخصه وجعل الكتيبة الكبرى وهي كتيبة محمد كما كان يطلق عليها هي المسؤولة عن حماية مقره الرئيسي في «باب العزيزية» سلحها بأقوى الأسلحة والمعدات وجلب لها أعتى المدربين، ومع ذلك انهارت في النهاية كما تنهار بيوت الرمال أمام موجات البحر الجارفة، حدثني أحد قادة الثوار في بنغازي أنهم فوجئوا بكميات هائلة من الخمور وحبوب الهلوسة والفياجرا في المعسكرات التي سقطت في أيديهم في البداية مما يعني أن اللهو والمجون كان هو العنصر المسيطر على ولاء الكتائب للنظام، روى لي أحد الليبيين أنه كان يعذب في سجون القذافي فناشد الجندي الذي يعذبه قائلا له «لا تعذبني يرحم والديك فأنا إنسان مثلك» فرد عليه الجندي الذي يعذبه قائلا «ليس لي والدين» فهذه صورة تبين نوعية هؤلاء اللقطاء الذين جلبهم القذافي ليعذب ويقتل بهم الشعب الليبي، ولعل هذا يميط اللثام ويجيب عن تساؤل طالما يدور في أذهان الناس من هم كتائب القذافي ولماذا يقاتلون بهذه الشراسة ولماذا يدمرون في ليبيا ويقتلون الشعب الليبي بهذه الوحشية.
لقد انتهى القذافي كحاكم طاغ مستبد وانتهت كتائبه وسيذهبون لمزبلة التاريخ، لكن التحديات التي أمام الشعب الليبي ليعيد بناء بلده مرة أخرى تحديات كبيرة تحتاج إلى وعي ورؤية وعزيمة في بلد يملك من المقومات الطبيعية والجغرافية والسكانية ما يجعله مع جيرانه لاسيما مع مصر وتونس و الجزائر يشكل قوة تعيد المجد لشمال إفريقيا وتجعله موازيا لجنوب أوروبا من حيث النمو والنهوض والعطاء الإنساني، وإعادة المجد و العز للأمة.

الوطن القطرية

Total
0
Shares
السابق
ممدوح حمزة

ممدوح حمزة (3) : جمعة الغضب ومعركة كوبري قصر النيل

التالي
ممدوح حمزة

ممدوح حمزة (4) : موقعة الجمل ..ورحيل مبارك.. ومستقبل الثورة المصرية

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share