تعذيب المصريين فى المواصلات العامة

قبل حوالى عشر سنوات أجريت حواراً من القاهرة مع محمد دحلان، مدير الأمن الوقائى السابق فى قطاع غزة، وكان من الحوارات التى أحرجت دحلان إلى حد كبير، ولم يخفِ غضبه منى على الهواء وبعده، ولأنى عادة ما أرتب جلسة مع ضيوفى قبل البرنامج للدردشة وكسر حدة التوتر التى عادة ما أجدها لدى كثير منهم، فقد اتفقت مع دحلان أن نتناول الغداء معاً فى أحد مطاعم القاهرة المطلة على النيل، وفى طريقى إليه كانت الطرق مزدحمة للغاية -كالعادة فى القاهرة- حتى إن الطريق الذى يستغرق نصف ساعة فى ظروفه العادية استغرق منى ما يقرب من ساعتين، فلما تأخرت اتصل بى وقال: لقد وصلت إلى المطعم منذ نصف ساعة، أين أنت؟ قلت له: أنا غارق فى زحام القاهرة؟ قال لى: يا ليت عندنا فى غزة زحاماً مثل زحام القاهرة، قلت له: لماذا؟ قال: يستيقظ المصرى فى السادسة صباحاً أو قبلها حتى يعد نفسه للعمل ثم يخرج ليلحق بالمواصلات فيصل عمله عند الثامنة أو بعدها فيجد زحاماً من المراجعين فى العمل يجعله فى نهاية اليوم لا يكاد يبصر ما حوله من التعب والأرهاق ثم يقضى ساعتين أو أكثر فى المواصلات حتى يعود إلى بيته منهكاً فيشاهد فيلماً أو مسلسلاً أو مباراة كرة ثم يتناول عشاءه وينام، فلا يفكر فى السياسة ولا ينشغل بها، فنرتاح نحن رجال الأمن أو على الأقل يكون عملنا محدوداً فى شريحة معينة، أما عندنا فى غزة فالقطاع محدود جداً من الناحية الجغرافية، ونسبة البطالة كبيرة، ولا يوجد عندنا زحام مواصلات ولا زحام مراجعات والناس ليس لها عمل إلا السياسة، مما يجعلنا نحن نعيش تحت الضغط والإرهاق بالليل والنهار، أدركت وقتها أن ما يقوم به النظام فى مصر من تعذيب للناس فى المواصلات العامة ليس عبثاً، وإنما هو مخطط ومدروس، كما أدركت أسباب رفض حسنى مبارك مشروع ممر التعمير الذى عرضه عليه الدكتور فاروق الباز فى عام 1982، والذى طرحه فاروق الباز على حلقتين منذ عدة سنوات فى برنامجى التليفزيونى «بلا حدود» حيث رفض مبارك المشروع رغم أن «الباز» دبر تكاليف دراسات الجدوى والشركات التى ستقوم بتمويله بنظام حق الانتفاع، ولنا أن نتخيل وضع مصر الآن لو بدأ هذا المشروع قبل ثلاثين عاماً، وأذكر أن مبارك أيضاً رفض أكثر من مشروع لمد مدن القاهرة الجديدة بقطارات ضواحٍ وخطوط مترو، وهى مشروعات طرحت عليه قبل أكثر من عشرين عاماً، لكن الأخطر من كل ذلك، والذى يعكس عقلية العسكر الجامدة التى حكمت مصر خلال الستين عاماً الماضية ما أبلغنى به أحد الأصدقاء أنه اطلع على دراسة أعدتها شركة «فورد» الأمريكية لصناعة السيارات نهاية الخمسينات أو بداية الستينات، على ما أذكر، بعد زيادة الطلب على سياراتها فى منطقتى الشرق الأوسط وشرق آسيا، ورغبتها فى التوسع وإنشاء مصنع يلبى حاجات المنطقة حيث اختارت مصر مكاناً لإنشاء هذا المصنع، وعرضت الفكرة على الحكومة المصرية، وحتى تشجع عبدالناصر على القبول بالمشروع عرضت إنشاء طريق دولى سريع يربط الإسكندرية بصعيد مصر مخترقاً الصحراء الغربية، لكن عبدالناصر الذى جر الهزائم لمصر وكرس نظام الاستبداد والفساد، واستخدم الميكروفون طريقاً للنضال الأجوف، قال إنه لن يسمح للإمبرالية والاستعمار أن يكون لهما مكان على أرض مصر، ولنا أن نتخيل لو أن مشروعاً مثل هذا أنشئ فى مصر فى ذلك الوقت؟ لقد أعاد حكم العسكر مصر عشرات السنين إلى الوراء، وضاعت عشرات الفرص والمشاريع فى الستين عاماً الماضية، لكننا نقول دائماً: إن النهضة تقوم بعوامل مجتمعة وليس بعامل واحد، وإذا كان العسكر قد أضاعوا هذه المشروعات لا سيما ما يتعلق بمواصلات المصريين التى هى أهم شىء للنهضة، فإن الفرصة قائمة الآن لاستدراك ما فات، وأعتقد أنه فى حالة تصحيح وضع المواصلات العامة فإننا سوف نجد الوزير و«الغفير» يركبها تماماً مثلما يحدث فى الغرب، فهل مشروع النهضة للرئيس مرسى سيريح المصريين من عذاب المواصلات العامة؟

Total
0
Shares
السابق

تركيا «2002».. مصر «2012 »

التالي
خالد حنفي

خالد حنفي (2) : قصص أطباء المستشفى الميداني فى ثورة يناير ومشاهد الشهداء والمصابين

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share