قصة البيان الأول لثورة25 يناير (4)

لم أكن أنام فى الميدان وإنما كنت أغادره إلى بيتى كل يوم عند منتصف الليل أو قبل ذلك أو بعده حسبما أشعر بالتعب أو الأرهاق أو ابنتى ندى التى كانت ترافقنى أحيانا وتلح على فى العودة لأننا كنا نبقى يومنا فى الميدان دون طعام إلا بعض التمر، ولم أكن أعبأ على الإطلاق بحظر التجول رغم أن بيتى كان يبعد عن الميدان مسافة بعيدة لم أكن أصادف خلالها أية دوريات عسكرية إلا واحدة فى مدخل القاهرة الجديدة حيث أقيم، وعادة ما كان قائد الدورية وكان برتبة رائد من القوات الخاصة ينتظرنى كل يوم حتى يناقشنى فيما يدور فى الميدان، وبظرافة المصريين وطيبتهم كان يرد على حماستى فى النقاش بقوله: « هتودوا البلد فى داهية يا أستاذ أحمد» ثم يودعنى بقلب متعاطف فى نهاية النقاش «ربنا يوفقكم». عدت صباح الخميس 10 فبراير إلى ميدان التحرير على أمل أن أجد عبدالجليل الشرنوبى أو تعود لى دفقة الكتابة والروح الوثابة التى كتبت بها البيان الأول لكنى لم أجده ولم أكتب وغرقت فى دوامة العمل اليومى ونقاشات وإشكالات الميدان. جاء يوم الجمعة 11 أبريل وهو اليوم الحاسم فى تاريخ مصر، صباح هذا اليوم التقيت مع الدكتور محمد فؤاد جاد الله نائب رئيس مجلس الدولة فى نفس المكان الذى كنا نلتقى فيه كل يوم خلف المنصة فى شركة سفير للسياحة التى تركها صاحبها لقيادات الثورة طوال أيامها وهذا موقف مشرف لصاحب هذه الشركة الذى لم يذكره أحد كثيرا، قررت أن أفاتحه فى فكرة كتابة البيان الأول للثورة، وقلت له لقد كتبت يوم الأربعاء صيغة للبيان الأول للثورة وعرضتها على معظم الموجودين ووافقوا عليها لكن شخصا أخذها للطباعة ولم يعد، فقال لى الدكتور جاد الله مندهشا: والله لقد راودتنى الفكرة أنا أيضا وكتبت مسودة أيضا للبيان يوم الثلاثاء 8 فبراير لكنى لم أعرف على من أعرضها وفكرت أن أفاتحك فى الأمر لأنك أقرب الناس لى فى الميدان لكنى خشيت ألا تجد القبول عندك، قلت له هل من المعقول أن كلا منا يفكر فى نفس الشىء فى نفس الوقت ويكتب كلا منا الفكرة؟، قلت له: أين ما كتبته قال: ها هو فى جيبى، حينما قرأته قلت: يا إلهى.. إنه لا يختلف كثيرا عما كتبته يوم الأربعاء، إنها إبداعات العقل الجمعى المصرى، لكن ديباجة ما كتبه الدكتور جاد الله كانت طويلة جدا مثل مقدمات الأحكام التى يكتبها القضاة فقمت باختصارها وأخذت منها فقرة ظلت هى التى تزين كافة بيانات «اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة» التى أسستها مع الدكتور جاد الله بعد ذلك وكان نص هذه الفقرة التى تدمع عيناى كلما كتبتها أو قرأتها هو: « نحن جماهير الشعب المصرى صاحب السيادة الوحيد على أرضه ومصيره ومقدراته ومصدر كافة السلطات فى هذا البلد الذى استردها باندلاع ثورة 25 يناير الشعبية السلمية.. ». أعجبتنى صياغة البيان التى تطابقت مع ما كتبته من حيث المطالب والأهداف لأنها فى النهاية كانت مطالب الشعب والثوار لكنى أدخلت عليها بعض التعديلات بقلمى واختصرت معظم الديباجة حيث أميل دائما للاختصار والمباشرة والحدة والبلاغة اللغوية الجامعة فى كتابة البيانات، وقد أبلغنى الدكتور جاد الله بعد ذلك أن المسودة بتعديلات خط يده ما زالت عنده وقد حصلت على صورة منها بالفعل، أما فكرة كتابته مسودة البيان الأول فقد جاءته كما أخبرنى وهو يجلس على منصة القضاء يوم جلسة الدائرة الأولى بمجلس الدولة وهو أحد قضاتها يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011 وكتبها بالقلم الرصاص الذى عادة ما يستخدمه القضاة، وكان يجلس إلى جواره زميله المستشار سامى درويش نائب رئيس مجلس الدولة وأنه أطلعه على المسودة بعد كتابتها لكنها ظلت حبيسة فى جيبه لا يعرف مع من يتكلم فيها حتى تشجع وتحدث معى حينما فاتحته فى الأمر حول ضرورة إصدار البيان الأول صباح الجمعة 11 فبراير، وهذا يؤكد ما قلته وأكرره عن العقل الجمعى المصرى الذى أبدع كل مراحل هذه الثورة، ونكمل غدا.

Total
0
Shares
السابق

قصة البيان الأول لثورة25 يناير (3)

التالي

قصة البيان الأول لثورة 25يناير (5)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share