الطريق إلى الجمرات (1 – 7)

الطريق إلى الجمرات

قررت هذا العام أن أبيت فى مزدلفة، كما فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى حجة الوداع، وكنت قبل ذلك أفعل ما يفعله معظم أو كل من معى فى حملة الحج وما يفعله معظم الحجاج الذين يأتون من قطر ومعظم دول الخليج وغيرهم؛ حيث يغادرون مزدلفة بعد منتصف الليل كما أباح الرسول، صلى الله عليه وسلم، لا سيما لمن يرافقون النساء وكبار السن، لكنى هذه المرة وجدت خمسة عشر حاجا من بين الخمسمائة حاج الذين كنت أرافقهم فى حملة الحج هذا العام قرروا المبيت فى مزدلفة، فقررت أن أبيت معهم وأن أفعل شيئا لم أفعله من قبل، ومزدلفة هى ثالث المشاعر المقدسة التى يمر بها الحاج بعدما يطوف بالبيت ويسعى ثم يذهب إلى منى يوم التروية، أى الثامن من ذى الحجة، ثم يقف فى عرفات يوم التاسع من ذى الحجة ثم يغادر عرفات بعد الغروب ويبيت فى مزدلفة ويغادرها بعد صلاة الفجر متوجها إلى منى ثم الجمرات، وقد رخص الرسول، صلى الله عليه وسلم، لمن أراد أن يغادرها بعد منتصف الليل أن يفعل، ومزدلفة تقع فى المسافة بين جبل عرفات ومنى التى تقع الجمرات فى نهايتها، يبعد جبل عرفات عن المسجد الحرام نحو عشرين كيلومترا وتبعد مزدلفة نحو عشرة كيلومترات وتبعد منى نحو سبعة كيلومترات، وهذه المسافات لا يدخل فيها عمق كل موقع، وإنما تحسب من الأطراف، كما أعتقد؛ لأننى مشيتها على الأقدام فى مرات متعاقبة.

ورغم أن الحج للمسلمين بدأ منذ عهد الرسالة وسوف يبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن معظم الحجاج أو كلهم يبيتون كما بات الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فى العراء فى مزدلفة، فلا توجد أى خدمات باستثناء الحمامات التى لا تليق من حيث المستوى أو الكم بالعدد الكبير من الحجاج، بعض الحملات المنظمة مثل التى كنا فيها، توفر السجاد وفرش النوم ووجبة عشاء لمن سينامون، أما معظم الحجاج وكلهم دفعوا رسوم المبيت والانتقال وغيرهما للمطوفين فلا يجدون حتى شربة ماء يشربونها فضلا عن توفير فرش أو طعام فى مزدلفة، ومعظمهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، لكن روح التكافل والتراحم والمودة بين أناس جاءوا ليغفر الله لهم ويخرجهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم تسع معظم الناس وتجعلهم يصبرون على كل ما يلقون، ولأنى أحب التجول بين الناس والتحدث معهم فإنى والله أجد فى نفوسهم رضا عجيبا وصفاء لا حدود له، والمبيت فى مزدلفة على هذه الشاكلة لا يناسب المترفين من الحجاج الذين لا يبيتون ويفدون بالذبح، بل إنهم لا يقومون بمعظم واجبات الحج ويفدون بالذبح، حتى إنى سألت أحد العلماء الذين كانوا معنا فى الحملة: وهل يصح حج دون تعب أو نصب أو واجبات؟ قال لى: الكل يأتى يطلب المغفرة والأجر من الله، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذى يتقبل وهو الذى يجزى والأجر على قدر المشقة.

كنت قبل ذلك لا أنام فى مزدلفة؛ فأنا بطبيعتى نومى خفيف للغاية وأى صوت يوقظنى إذا نمت، وفى أجواء الزحام والأصوات العالية لا أستطيع النوم على الإطلاق مهما كنت مجهدا، لكن ما حدث معى فى مزدلفة هذا العام كان شيئا من الخيال، افترشنا نحن الخمسة عشر حاجا الذين قررنا المبيت بعض السجاد على الأرض وجاءوا لنا بأكياس النوم، وما إن وضعت رأسى حتى ذهبت فى سبات عميق وكأنى أنام فى أعظم فندق فى الدنيا حتى إننى حينما استيقظت قبل الفجر بساعة لم أصدق تلك السكينة والهدوء اللذين ملأ الله بهما نفسى وقلبى وأنام عينى رغم الآلاف المؤلفة التى حولى من البشر بكل ضجيجهم وحركتهم وذهابهم ومجيئهم، أنا الذى لا أستطيع النوم مع أى حركة وأستيقظ لأى صوت نمت عدة ساعات بعمق لم أشعر به من قبل وكان نومى على الرصيف فى الشارع وفى العراء حتى إننى حينما استيقظت بقيت مكانى لعدة دقائق أتأمل المشهد من حولى وما كنت فيه، وشعرت لأول مرة بعمق بمعنى قوله تعالى «إذ يغشيكم النعاس أمنة منه».

(2)

كانت تروادنى فكرة الذهاب من مزدلفة إلى الجمرات سيرا على الأقدام، لا سيما أننى فى حجة سابقة راودتنى فكرة الذهاب مع الحجاج المشاة من عرفات إلى مزدلفة وفعلتها، ورغم مشقتها كانت لها حلاوتها التى لم أنسَها، كنت أنام قرب لافتة كتب عليها أن المسافة من مزدلفة إلى الجمرات تزيد على خمسة كيلومترات وهى بعرف الذى يعشقون المشى ليست مسافة بعيدة ومع سرعة الخطى تأخذ ساعة، لكن المهم أن يكون الطريق سالكا إليها، بعد صلاة الفجر توجهنا إلى «الباص» حتى نذهب إلى الجمرات، لكنى سرعان ما حولت الفكرة التى تروادنى فى الذهاب سيرا على الأقدام إلى قرار، وقلت لمن معى: هل يود أحدكم أن يرافقنى فى الذهاب إلى الجمرات سيرا على الأقدام؟ قال أحدهم: أنا أرافقك، ونزل معى، لكنه سرعان ما اختفى عنى بين الجموع، كانت «الباصات» تسد الطريق؛ لذا حرصت على أن أتوجه إلى أحد طرق المشاة الأربعة التى تربط بين مزدلفة ومنى، وأغلب الحجاج من كل الملل والنحل والأجناس والألوان يقطعون هذه المسافات سيرا على الأقدام حتى من كبار السن والنساء، ورغم أن أغلبهم من الفقراء فإن من بينهم كثيرا من أولى العزم، لا سيما أن المواصلات ليست منسابة بالشكل المريح كما يعتقد البعض، وأذكر أنى حينما استيقظت قبل الفجر بساعة سمعت سيدة مصرية تتحدث مع سائق «الباص» الذى كان يرافقهم بعدما أغلق عليهم «الباص» وتركهم دون مكيف أو أى شىء وذهب ينام، مما أدى إلى مشكلات صحية لبعض المرضى وكبار السن فى «الباص»، وهذه المشكلة تلازم معظم الحجاج؛ فالمطوفون يتركونهم فريسة للسائقين دون مرافقين أو إداريين يصاحبون الحجاج ويرتبون لهم أمورهم، ورغم أن هذه المسافة لا تزيد على خمسة كيلومترات فإن بعض الحجاج يبقون فى «الباصات» لست وسبع ساعات أحيانا حتى يتمكنوا من تجاوز تلك المسافة البسيطة، أما الذين قُدر لهم أن يركبوا القطار فقد كانت مأساتهم أكبر، وقضى بعضهم ثمانى ساعات ينتظرون أدوراهم حتى يقلهم القطار لمسافة لا تزيد على عشر دقائق ركوبا.

كان طريق المشاة الرئيسى القادم من جبل عرفات وحتى الجمرات يقع فى أقصى اليمين، بينما كنت فى أقصى اليسار، فسعيت إلى أن أذهب إلى أقرب طريق من الأربعة، مشيت فى أحدها مع جموع من كل الدنيا جاءوا يرجون رحمة ربهم ويخشون عذابه، لكنى على أطراف مزدلفة وقبيل دخول منى وجدت المشاة قد توقفوا وبدأ الزحام والتلاحم والاختناق فيما وجدت بعض الحجاج عائدين يقولون إن الطريق مغلق فى الأمام، حينما وجدت عدد العائدين بدأ يزداد عدت مع بعضهم حتى وجدت مركزا للدفاع المدنى وقفت عنده لأفكر ماذا أفعل.. كانت المشكلة ليست فىّ على الإطلاق، لكن فى النساء والأطفال وكبار السن الذين كنت أتألم لهم، لكنهم كانوا مصدر قوة وشجاعة بالنسبة لى ولكثير من أمثالى، وجدت من يحمل أباه أو أمه أو زوجته أو أولاده، ووجدت الذين انحنت ظهورهم من كبار السن يمشون، بعضهم يحمل متاعه على رأسه أو على ظهره عائدا به من عرفات سيرا على الأقدام فى مسافة تزيد على عشرة كيلومترات، الكل يلهث بالذكر والدعاء، غير أن الزحام كان يضيق صدور الناس أحيانا ويذهب ببهجة الخشوع وجمال المنظر.. وقفت أتأمل فى الناس قليلا ثم وجدت طريقا جانبيا منسابا فمشيت مع الناس فيه حتى وصلت عند عنق الزجاجة وعرفت أن سبب الزحام والتلاحم أن طريق المشاة الذى كنا نسير فيه مغلق ومحول إلى طريق آخر ونقطة التحول ضيقة، مما يؤدى إلى تزاحم الناس وبطء الحركة والاختناق وقليل من التدافع، وكلما وجدت طفلا على ذراع والده أو مسنا على كرسى متحرك أو عجوزا تستند على زوجها شعرت بالشفقة ودعوت الله ألا يرد أيا منهم إلا وقد تقبل حجه وغفر ذنبه، كان الخروج من عنق الزجاجة أمرا شاقا إلى حد بعيد، وكنت أتساءل: لماذا يفعلون ذلك بالحجاج ويزيدون المشقة على المشاة؟ لقد كان الطريق منسابا فلماذا أغلقوه وحولوا الناس إلى طريق آخر وفيهم المريض والمسن والمقعد والطفل؟

(3)

رغم الزحام الشديد فى عنق الزجاجة بين «مزدلفة» و«منى» فإن السكينة التى كانت على وجوه الحجاج كانت عجيبة، وكانت تنعكس على نفسى رغم ضجرى الداخلى وشفقتى على كبار السن والنساء والأطفال، وكان الرضا والابتسام يغشيان الوجوه، وكلما غضب أحدهم أو همّ أن يرفع صوته ضجراً أو ضيقاً تسمع غيره يقول له الجملة الشهيرة «حج يا حاج» أى أدِّ مناسك الحج دون تؤذى أحداً حتى تعود من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الخروج من عنق الزجاجة يمثل أمل الجميع، وحينما خرجت وجدت سعة فى الطريق، حيث التحمنا مع حجاج آخرين قادمين من طريق آخر من «منى» يسير تحت ممر القطار المرتفع كثيراً عن الأرض، الكل متوجه إلى الجمرات، وقفت عند مفترق طرق ونظرت فى الخريطة لأحدد الطريق الذى سوف أسلكه، لا سيما أننى أريد أن أسلك طريقاً إلى الجمرات يمكننى من العودة إلى السكن فى «منى» مع كثرة الطرق التى تؤدى إلى مخارج مختلفة، وبينما كنت أرتب أفكارى لأحدد مسيرى سمعت صوت سيدة بدا أنها غير عربية تسأل شرطياً سعودياً بصوت مرتفع، وتقول له «أين طريق الشيطان»، دارت بى الدنيا للحظات، يا إلهى «طريق الشيطان» هنا فى «منى»، لقد جئنا من أجل أن نبتعد عن الشيطان لا أن نبحث عن طريقه، لأنه لا يوجد فى الطرق أو على الخريطة شارع أو طريق اسمه طريق الشيطان، نظرت إلى السائلة والمسئول، فوجدت سيدة أفريقية بدا أنها لا تحسن «العربية»، وجندياً سعودياً شاباً بدا أنه طيب الروح ومبتسم يقف فى مكان مرتفع، والجنود السعوديون الذين يمكن أن تصادفهم فى الحج صنفان، إما متجهم لا يعطيك جواباً عن شىء، وإما متبسم متعاون محب للناس ولفعل الخير، وقد كان هذا من الصنف الثانى، ويبدو أنه أعجب بالسؤال، فقال لها: يا حاجة تريدين طريق الشيطان الكبير أم طريق الشيطان الصغير؟ فقالت له: «شيطان كبير»، فقال لها: الشيطان الكبير من هذا الطريق، والشيطان الصغير من هذا الطريق، غرقت فى الضحك، ولا حظنى الجندى فضحك هو الآخر، وقال لى «ماذا أفعل؟»، هى تسأل عن الجمرات، وكل الطرق تؤدى إلى الجمرات، حيث إننا فى هذا اليوم نرمى جمرة العقبة الكبرى فقط، لكنها لم تسأل عن الجمرات، لأن الراسخ فى عقول العامة وغير العرب هو أنهم يرمون الشيطان بالحصيات، لكنها فى عبادة الحج تسمى «رمى الجمرات»، أعجبتنى روح الجندى ودعابته رغم الإرهاق الشديد الذى كان بادياً عليه، وهو كان صادقاً مع «الحاجة» لأن كل الطرق كانت تؤدى إلى الجمرات، وهى متجاورة وإن كانت الكبريفى النهاية، مشيت فى اتجاه طريق «شيطان كبير»، حسب وصف الحاجة الأفريقية. وسرعان ما وجدت مأزقاً آخر، فطرق المشاة كلها محولة إلى طريق واحد فقط، هو طريق المشاة الرئيسى رقم واحد، يا إلهى؟ إن طريق المشاة رقم واحد مكتظ بالحجاج إلى مرحلة التلاحم والالتحام، والجنود هنا لا يسمعون ولا يتفاهمون، وعلى جميع الحجاج المتجهين سيراً على الأقدام للجمرات أن يسلكوا هذا الطريق، كانت المسافة المتبقية للجمرات لا تزيد على كيلومترين، ومع ذلك سلكتها فى حوالى ساعتين من شدة الزحام وبطء الحركة، والمشهد هو هو دائماً بين المشاة كبار فى السن ومقعدون على كراسى متحركة وأطفال وسط الحجاج ومجموعات من الآسيويين والأفارقة تصر على التحرك مع بعضها، المشهد يدعو للشفقة، لكنه يدعو كذلك للرحمة والتراحم والإعجاب بهذا الدين، وهؤلاء الذين جاءوا من أنحاء الدنيا يرجون رحمة ربهم فى أيام معدودات، كانت التلبية لا تنقطع، فالتلبية فى الحج تبدأ من النية وحتى رمى الجمرات، كان همى ألا أؤذى أحداً وأن أعفو عن أى أذى أتعرض له نتيجة الزحام، كان أغلب الناس أو كلهم يتسامحون، بينما القلة يبدون ضجرهم أو ضيقهم أو غضبهم، لكن سرعان ما كان يتدخل الجميع ليطفئوا النيران ويصرفوا الشيطان، عبر العبارة الجميلة «حج يا حاج». «نكمل غداً»

(4)

كنت أخشى من شدة الزحام أن يحدث تدافع بين المشاة من الحجاج فى أى لحظة، ومن ثم تحدث كارثة، لكن لطف الله ورحمته كانا يلازماننا، لاسيما وبيننا كثير من الشيوخ الركع والأطفال الرضع، وكنت أنظر إلى مبنى الجمرات فأجده قريباً لكن بطىء المسير والزحام كان يجعله بعيداً جداً، وبعدما يقرب من أربع ساعات من المسير وصلنا إلى الجمرات، حيث توزعت الحشود على الأدوار الأربعة وخف الزحام، وفى هذا اليوم ترمى جمرة العقبة الكبرى فقط بسبع حصوات، وعند الجمرات تجد العجب العجاب، حيث يصب الجميع لعناتهم على إبليس حسب معاناة كل منهم، وكان أعجب ما رأيت مجموعة من الرجال كانوا يقفون على جانب يحمسهم أحدهم ضد إبليس، وحينما اقتربت لأرمى الحصوات سمعته يقول لهم بحماسة «اهجموا.. اهجموا» حاولت الابتعاد مسرعاً عن طريقهم، لكن ضربة من أحدهم جاءت أسفل رأسى فكادت تفقدنى الوعى وبقيت عدة أيام أعانى منها، وحمدت الله أن وفقنى فى الرمى وبقى على أن أحلق أو أقصر شعرى وأتحلل، أما أعجب وأطرف ما سمعت أن أبناء جاؤوا بأبيهم للحج وقد تجاوز السبعين ولم يحج من قبل، وحينما جاؤوا به لرمى الجمرات قال لهم ما هذا؟ قالوا ترمى إبليس؟ قال لهم: أنا ليس بينى وبين إبليس أية مشاكل وعلاقتى به طيبة فلماذا أرميه؟ وتقول الرواية أن الرجل رفض وعاد دون أن يرمى؟ وما سمعت عن بعض المترفين أنهم يرمون إبليس بتردد بسبب العلاقة الحميمة معه وقد روى عن أحدهم أنه وهو يرمى كان يقول «اللهم اخزيك يا شوشو» فسأله آخر وقال له: هل شوشو زوجتك؟ قال له لا: «إنه الشيطان أدَلله لأنى أحتاجه أحياناً»، وروى لى أحد شيوخ الحملة أنه فى حجة سابقة «سمع أماً تحفز ابنتها قبل رمى الجمرات وتقول لها: هذا هو الشيطان الذى فرق بينك وبين زوجك عليك به هذا الملعون، فخلعت الابنة حذاءها وتوجهت بكل قوتها لترمى بها إبليس». وكان بعض الحجاج من حماسهم يلقون بأحذيتهم، وكنت أجلس مع أحد شيوخ الحملة فجاء أحد الشباب بحجر كبير وقال له: يا شيخ هل تصلح هذه؟ ضحك الشيخ وقال له: هذه تنم عن أن ثأراً مبيتاً بينك وبين إبليس، هذا حجر كبير وليست حبة من الحصى، ويروى عن بعض بسطاء الناس أنهم يتصورون أنهم سوف يرون إبليس وهم يرجمونه أو أنه يعيش فى هذا المكان.

عدت إلى السكن فى منى فوجدت الحجاج الذين تركتهم فى الباص وذهبت سيراً على الأقدام وصلوا للتو، وقالوا لى: لقد قضينا أربع ساعات فى الباص فى تلك المسافة القصيرة، فقلت لهم لقد قضيت مثلها فى المسير ولكنى رميت وهم لم يرموا بعد، فقال بعضهم: ليتنا جئنا معك، أما الذين ركبوا القطار من مزدلفة إلى الجمرات فقد كانت معاناة بعضهم أكبر من ذلك؛ حيث بقى بعضهم ما يقرب من ثمانى ساعات حتى جاءهم الدور وركبوا القطار، الجميع كان يعانى فى الوقت الذى يمكن أن تكون المعاناة قليلة لو كان النظام والترتيب أدق، وإذا كان عدد الحجاج ثلاثة ملايين أو أكثر، فإن الحج بدأ قبل أربعة عشر قرنا وسوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو فرصة للمسلمين أن يجتمعوا من أرجاء الدنيا فى أيام معدودات ليذكروا الله ويؤدوا الفريضة ويتعارفوا فيما بينهم، ويحققوا غايات كثيرة، من ثم يجب تذليل الصعاب التى تحدث كل عام لأن الزحام والمعاناة تقتل الخشوع والتبتل والتضرع والدعاء والتلبية، وتصرف الناس إلى مشكلاتهم، وتدفع بعضهم إلى أن يؤذى غيره أو يأتى من ضيقه وقنوطه بتصرفات تبطل حجه أو تنتقص منه أو تضعه فى إطار الحرج مع نفسه ومع الناس، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وهذا يدل على صعوبة تحقيق ذلك إلا من رحم ربك من الناس.. نكمل غداً.

(5)

القول بأن أعداد الحجاج الكبيرة هى سبب الفوضى وعدم النظافة أمر غير صحيح، لأن أعداد الحجاج سوف تزداد فى الأعوام القادمة بسبب زيادة أعداد المسلمين وعودة الناس إلى ربهم، وإذا كان العدد كبيراً فإن النظام والتحضير كافيان ليستوعب من هم أكبر من ذلك، ويكفى أن نعلم أن مدناً مثل القاهرة ومومباى وكراتشى وباريس ونيويورك وعشرات المدن الأخرى فى العالم يدخلها ويخرج منها كل يوم ما بين ثلاثة إلى عشرة ملايين إنسان، فطالما وضع نظام دقيق سهل على الناس أمرهم وإلا ما معنى أن يقضى الناس أربع ساعات فى الباص أو مثلها ينتظرون القطار أو مثلها سيراً على الأقدام فى مسافة لا تزيد على خمسة كيلومترات أو يبقى بعضهم إلى ما بعد منتصف الليل فى عرفات وبعضهم إلى ما بعد الفجر لا يجدون طريقاً للخروج، ، وكما تم تنظيم رمى الجمرات تنظم باقى مراحل الحج وأهمها النظافة، ولو وجد الحجاج أكياس الزبالة فى كل مكان ما ألقوا مخلفاتهم على الأرض بطريقة مريعة تخالف تعاليم الإسلام الذى هو دين النظافة، لقد خرجت فى عرفات قاصداً جبل الرحمة فما كانت تقع قدماى إلا فى أوساخ الناس وكأننى أسير فى مزبلة وليس مشعراً مقدساً، وهل يعقل أن تبقى آلاف الباصات تبث سمومها طوال الوقت وهى متوقفة فى مكانها بالساعات الطويلة فى عرفات ومزدلفة ولا يجبَر سائقوها على إطفائها حتى لا يلوثوا البيئة المحدودة بالناس بمخلفات الديزل؟.

إن ضبط سلوكيات الناس رغم مجيئهم من مشارب شتى أمر ممكن وليس مستحيلاً إذا توفرت الرغبة والإرادة كما أن الحج يمكن أن يكون درساً فى السلوك ويترك علامات وذكريات طيبة وتعاليم سامية لا تزول من نفس الحاج يظل يحدث بها أبناءه وأحفاده سنوات طوالاً، لقد كان أخشى ما أخشاه هو ردود الفعل على المسلمين الجدد لا سيما من الأوروبيين وحديثى العهد بالإسلام حينما يرون الفوضى وعدم النظام والنظافة التى تملأ الساحات وكل المشاعر، وكنت أقول يا إلهى ثبت إيمانهم وإسلامهم ولا تفتنهم بصنيع المسلمين، لو توفرت الإرادة لتحول الحج إلى مدرسة وهو مدرسة أعدها الله للمسلمين تقوم على ذكر الله فى أيام معدودات والذكر ليس معناه التلبية والتسبيح والتهليل والتكبير فقط بل الالتزام بكل ما أمر الله ذكر له.

عدت بعد رمى جمرة العقبة الكبرى، أو «شيطان كبير» إلى السكن فى «منى» فوجدت الذين ركبوا الباص من رفاقى وصلوا للتو، فقصرت وتحللت وحيث إننى أديت الحج هذه المرة مقرناً فقد أخرت طواف الإفاضة حتى أؤديه مع طواف الوداع، سألت أحد الحجاج ممن تعرفت عليهم فى الحملة وكان شاباً إن كان قد أدى الحج قبل ذلك، فقال لى: الحمد لله أديت الفريضة من قبل وقد أتيت للحج هذا العام عن جد والدى الذى توفى منتصف الأربعينات من القرن الماضى، وقد وقعنا على وصية له مؤخراً يقول فيها إنه لم يؤدِ الفريضة وأوصى قبل وفاته بأن يؤدى أحد أبنائه أو أحفاده فريضة الحج عنه، وحينما علمت بأمر الوصية نويت أن أؤدى الحج عنه، ونسأل الله أن يتقبل، وإذا كتب الله لى الحج العام القادم فسوف أحج عن جد جدى لأنه ربما لم يؤدِ الفريضة هو الآخر، وقفت عند القصة ودعوت الله أن يتقبل منه، وسألت آخر من مسئولى حملة الحج عن عدد مرات حجه، فقال إنه لم يحصِها لكنه هذه المرة يحج عن جده الخامس الذى توفى قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً، وقد علم أنه لم يؤدِ فريضة الحج، لكن أعجب ما سمعت من أحد شيوخ الحملة أنه صادف طالب علم كان يدرس حياة الفقيه والأديب والعلامة ابن حزم الأندلسى فعرف أنه لم يؤدِ فريضة الحج فجاء يحج عن ابن حزم الذى توفى قبل قرون وكان من علماء الأندلس، وآخر علم أن الأديب والمفكر الإسلامى سيد قطب صاحب كتاب «فى ظلال القرآن» الذى أعدمه جمال عبدالناصر عام 1965 لم يؤدِ فريضة الحج فجاء يحج عنه، أما العم أبوخميس فقد كانت له معى قصة أخرى. «نكمل غداً»

(6)

كان يجلس بالقرب منى فى الطائرة التى أقلتنا من الدوحة إلى جدة، شعرت بشىء ما يجذبنى إليه، بدا فى العقد الثامن من عمره، لم أتحدث معه إلا حينما وصلنا إلى جدة وركبنا الباص الذى أقلنا إلى مكة، كنت أجلس فى مقدمة الباص فجاء وأشار بعصاه وهو ما زال على الأرض على المقعد الذى خلف السائق وقال: هذا مقعدى لا يجلس أحد عليه، كان معظم الحجاج يعرفونه ربما أنا الوحيد الذى لم أكن أعرفه من قبل إنه أبوخميس أحمد الكوارى، كان يتحدث مع الجميع بصيغة الأمر والكل يسمع له، حتى السائق الذى جلس خلفه أخذ يوجهه طوال الطريق، اذهب من هنا، أعط إشارة يمين، أعط إشارة يسار، لا تسمح لهذه السيارة أن تتجاوزك، وهكذا كأنما كان يقود هو السيارة وكان السائق سودانياً مطيعاً لكل ما يأمره به أبوخميس، وحينما دخلنا مكة واقتربنا من الحرم، أوقفنا الجنود ولم يسمحوا لنا بالمرور إلى الحرم لكن العم أبوخميس أمر السائق أن يتجاوز الجنود لكن السائق تمرد هذه المرة وقال «لا أستطيع سوف يسحبون رخصتى لستة أشهر وأخسر وظيفتى» نزل العم أبوخميس من الباص حتى يفاوض الجنود ليسمحوا لنا بالمرور لكنهم رفضوا رفضاً قاطعاً، وحينما عاد سألته: ماذا قال لك؟ قال: لقد أقسم بالطلاق؟ قلت له: أكيد غير متزوج وأكيد يقسم بالطلاق للجميع، بعد ذلك جاء أحد مسئولى الحملة وأقنعهم فى النهاية أن يفتحوا الطريق، كنت محظوظاً مع العم أبوخميس مرة أخرى حينما كانت غرفتنا مشتركة فى منى، كان يستيقظ قبل الفجر بساعة ثم يوقظنى ويوقظ باقى الشباب فى الغرفة، ووجدتنى مثل غيرى مندفعاً لخدمة أبوخميس إذا أراد شيئاً ودون أن يريد كنت أعرض عليه خدماتى، فقد أحببته بكل ما فيه من صرامة وشدة وعطف وأبوة، وكنت أناديه بالعم أبوخميس وأدركت أنه يحج فى هذه الحملة بشكل دائم، وحينما ذهبنا إلى عرفة وجاء أبوخميس حينما دخل الخيمة التى كانت تضم معظم الحجاج أخذوا ينادونه من كل صوب أن ينضم إليهم، لكنه حينما وجدنى وكنت أجلس وسط الخيمة اتجه صوبى فهيأت له المكان ثم قال لى: قم فنادِ الشباب الذين معنا فى الغرفة حتى ينضموا إلينا، قمت فبحثت عنهم فوجدتهم متفرقين فأخبرته أنهم متفرقون فى الخيمة، كان بعض الشباب يأتون فيخدمونه فكنت أعتقد أنهم أبناؤه لكنهم كانوا مثلى يحبون خدمته، جلس يلبى ويقرأ القرآن، وفى الاستراحة سألته قائلاً: كأنك تأتى إلى الحج دائماً، قال: الحمد لله، قلت له هل تذكر كم مرة أديت الحج: قال: الحمد لله هذه هى الحجة رقم ست وثلاثين، قلت له: ما شاء الله، ست وثلاثون حجة؟ قال: الحمد لله منذ العام 1976 ميلادى وهو العام الذى أديت فيه الفريضة لم أتخلف عن الحج سوى مرة واحدة، وكذلك عمرة رمضان وأحج فى هذه الحملة منذ أن أسست قبل عشرين عاماً، إنها موسم للطاعة يا بنى وعلى الإنسان أن يستغل مواسم الطاعات مع الله، مثل الذين يستغلون مواسم التجارة، وإن شاء الله سأبقى على هذا ما أحيانى الله، وقفت كثيراً عند ما قاله أبوخميس وزاد حبى له، كم عدد المسلمين الذين يملكون المال والصحة ولم يؤدوا حتى فريضة الحج؟ ولم يفهموا معنى موسم الطاعة والدعاء والتقرب إلى الله، كم عدد الذين يذهبون إلى الحج ويقضون الوقت فى الكلام مع أصدقائهم وأصحابهم فى شئون الدنيا، ناسين أن هذه اللحظات غالية وهى مخصصة لذكر الله فى أيام معدودات، كم عدد الذين يذهبون وقد ضحوا بأموالهم ووقتهم ثم لا يملكون غضبهم ويخسرون حجهم بسبب التطاول على هذا وسب ذاك، أدى أبوخميس الحج ستاً وثلاثين مرة ومثلها من عمرة رمضان، فأصبحت شيئاً ملازماً لحياته، وهو ينظر إليها على أنها موسم للطاعة وأيام للمغفرة والتجارة مع الله، نكمل غداً.

(7)

كنت كأغلب الحجاج من المتعجلين فرميت الجمرات فى يومين، ومشهد حشود الحجاج وهم يتوافدون إلى مبنى الجمرات من كل اتجاه بعد الزوال مشهد مهيب كم قضيت من الوقت وأنا أتأمله؛ حيث كان يقع السكن الذى أقيم فيه فى منى فى مكان مرتفع قريبا من الجمرات، فعلت شيئا مهما هذه المرة خلال رمى الجمرات، وهو التعرف على وفود الحجاج والحديث قليلا معهم حينما ينتهون من الرمى، رأيت وفدا من الرجال والنساء يزيد عددهم على خمسين حاجا كان يقودهم شخص يحمل راية غريبة، فتوجهت نحوه وقلت له: من أين أنتم؟ قال: من داغستان. قلت له: أنا من مصر وأود أن تنقل تحيتى لكل الحجاج معك، رفع صوته وخاطبهم بلغتهم وقال لهم: هذا حاج عربى من مصر ويريد أن ينقل تحيته إليكم. فوجئت بالجميع يبتسمون ويردون التحية بسعادة وفرحة، وداغستان معناها بلاد الجبال وهى إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية وسكانها أغلبهم مسلمون ويزيد عددهم على مليونين ونصف المليون، وبها ستة آلاف نهر تمد منطقة القوقاز باحتياجاتها الأساسية من المياه وتنبع معظمها من الجبال التى تغطى المساحة الأكبر من البلاد، تطل على بحر قزوين وتشتهر بالمصحات التى أُنشئت فى عهد الاحتلال السوفيتى السابق.. شاهدت مجموعة أخرى لفت نظرى أن الذى يقودها شاب صغير، توجهت نحوهم وقلت له: هل تتكلم العربية أو الإنجليزية؟ قال: أتكلم العربية. قلت له: مرحبا، أنا من مصر. قال ببشاشة: أنا تعلمت اللغة العربية فى مصر. قلت له: هل تعلمتها فى الأزهر؟ قال: لا، فى معهد خاص فى مدينة نصر. قلت له: هل تدرس فى الأزهر؟ قال: لا، أنا أدرس الاقتصاد فى بلادى، لكنى تعلمتها حتى أفهم الإسلام. قلت له: من أى البلاد أنتم؟ قال: نحن من تتارستان فى روسيا، وتتارستان هى إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، تقع فى قلب الاتحاد الروسى، وهى من أهم مناطق إنتاج وتصنيع الغاز والنفط فى روسيا، وسكانها أربعة ملايين معظمهم مسلمون، ومنها يبدأ خط أنابيب الغاز الذى يغذى أوروبا، المعروف باسم «خط الصداقة»؛ حيث تعتمد أوروبا على روسيا فى إمدادها بالغاز، وقد دخل الإسلام إلى تتارستان بعد دخول التتار فى الإسلام فى القرن السابع الميلادى، وظلوا يستخدمون الأحرف العربية فى كتابتهم حتى عام 1928؛ حيث تم إلغاؤها بعد الثورة البلشفية، قلت له: تبدو صغيرا.. كم عمرك؟ قال: أنا لست صغيرا، أنا فى الثانية والعشرين من العمر. ابتسمت وقلت له: كيف حال المسلمين فى بلادكم؟ قال: رغم كل ما فعلته الشيوعية نحن بخير. قلت له: الخير دائم بأمثالك من الشباب.. سلمت عليهم فردوا السلام جميعا، ثم رأيت مجموعة من الحجاج بدا أنهم صينيون توجهت نحوهم وألقيت عليهم السلام فردوا قلت لهم: أنا من مصر كأنكم من تركستان. هز أحدهم رأسه بابتسام وفرحة أن وجد من يعرف بلادهم، وتركستان الشرقية تقع شمال غرب الصين وسكانها أغلبهم مسلمون ينتمون لعرق الإيجور، ولأن منطقتهم تقع بين إمبراطوريتين هما الصين وروسيا فقد عانوا كثيرا وقد دخل الإسلام غرب الصين فى مناطق تركستان فى القرن الأول الهجرى السابع الميلادى على يد قتيبة بن مسلم الباهلى، وقد نالت استقلالها عن الصين عام 1944، غير أن الصين ضمتها إليها بعد قيام الثورة الشيوعية هناك عام 1949، وهى غنية بالنفط والغاز واليورانيوم، وقد تعرض سكانها المسلمون للتهجير والضغوط فى ظل النظام الشيوعى وما زالوا يعانون حتى الآن، وهكذا فعلت طيلة يومين مع تجمعات كثيرة من دول كثيرة والكل كانوا يفرحون، فهؤلاء العجم ينظرون إلينا نحن العرب على أننا أحفاد النبى والصحابة ويفرحون فرحا شديدا بمن يسلم عليهم أو يحييهم من العرب وليت جميع الحجاج العرب يفعلون ذلك ليتركوا أثرا بالغا فى نفوس هؤلاء، وقفت على باب الحرم ودعوت الله بعد طواف الوداع ألا يكون هذا آخر عهدنا بالبيت وأن يعيدنا إليه مع الحجاج فى العام المقبل.. قولوا آمين. انتهت.

Total
0
Shares
السابق

قصة الحاج شعبان (3)

التالي

الطريق إلى الجمرات (1)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share