الطريق إلى الجمرات (3)

رغم الزحام الشديد فى عنق الزجاجة بين «مزدلفة» و«منى» فإن السكينة التى كانت على وجوه الحجاج كانت عجيبة، وكانت تنعكس على نفسى رغم ضجرى الداخلى وشفقتى على كبار السن والنساء والأطفال، وكان الرضا والابتسام يغشيان الوجوه، وكلما غضب أحدهم أو همّ أن يرفع صوته ضجراً أو ضيقاً تسمع غيره يقول له الجملة الشهيرة «حج يا حاج» أى أدِّ مناسك الحج دون تؤذى أحداً حتى تعود من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الخروج من عنق الزجاجة يمثل أمل الجميع، وحينما خرجت وجدت سعة فى الطريق، حيث التحمنا مع حجاج آخرين قادمين من طريق آخر من «منى» يسير تحت ممر القطار المرتفع كثيراً عن الأرض، الكل متوجه إلى الجمرات، وقفت عند مفترق طرق ونظرت فى الخريطة لأحدد الطريق الذى سوف أسلكه، لا سيما أننى أريد أن أسلك طريقاً إلى الجمرات يمكننى من العودة إلى السكن فى «منى» مع كثرة الطرق التى تؤدى إلى مخارج مختلفة، وبينما كنت أرتب أفكارى لأحدد مسيرى سمعت صوت سيدة بدا أنها غير عربية تسأل شرطياً سعودياً بصوت مرتفع، وتقول له «أين طريق الشيطان»، دارت بى الدنيا للحظات، يا إلهى «طريق الشيطان» هنا فى «منى»، لقد جئنا من أجل أن نبتعد عن الشيطان لا أن نبحث عن طريقه، لأنه لا يوجد فى الطرق أو على الخريطة شارع أو طريق اسمه طريق الشيطان، نظرت إلى السائلة والمسئول، فوجدت سيدة أفريقية بدا أنها لا تحسن «العربية»، وجندياً سعودياً شاباً بدا أنه طيب الروح ومبتسم يقف فى مكان مرتفع، والجنود السعوديون الذين يمكن أن تصادفهم فى الحج صنفان، إما متجهم لا يعطيك جواباً عن شىء، وإما متبسم متعاون محب للناس ولفعل الخير، وقد كان هذا من الصنف الثانى، ويبدو أنه أعجب بالسؤال، فقال لها: يا حاجة تريدين طريق الشيطان الكبير أم طريق الشيطان الصغير؟ فقالت له: «شيطان كبير»، فقال لها: الشيطان الكبير من هذا الطريق، والشيطان الصغير من هذا الطريق، غرقت فى الضحك، ولا حظنى الجندى فضحك هو الآخر، وقال لى «ماذا أفعل؟»، هى تسأل عن الجمرات، وكل الطرق تؤدى إلى الجمرات، حيث إننا فى هذا اليوم نرمى جمرة العقبة الكبرى فقط، لكنها لم تسأل عن الجمرات، لأن الراسخ فى عقول العامة وغير العرب هو أنهم يرمون الشيطان بالحصيات، لكنها فى عبادة الحج تسمى «رمى الجمرات»، أعجبتنى روح الجندى ودعابته رغم الإرهاق الشديد الذى كان بادياً عليه، وهو كان صادقاً مع «الحاجة» لأن كل الطرق كانت تؤدى إلى الجمرات، وهى متجاورة وإن كانت الكبريفى النهاية، مشيت فى اتجاه طريق «شيطان كبير»، حسب وصف الحاجة الأفريقية. وسرعان ما وجدت مأزقاً آخر، فطرق المشاة كلها محولة إلى طريق واحد فقط، هو طريق المشاة الرئيسى رقم واحد، يا إلهى؟ إن طريق المشاة رقم واحد مكتظ بالحجاج إلى مرحلة التلاحم والالتحام، والجنود هنا لا يسمعون ولا يتفاهمون، وعلى جميع الحجاج المتجهين سيراً على الأقدام للجمرات أن يسلكوا هذا الطريق، كانت المسافة المتبقية للجمرات لا تزيد على كيلومترين، ومع ذلك سلكتها فى حوالى ساعتين من شدة الزحام وبطء الحركة، والمشهد هو هو دائماً بين المشاة كبار فى السن ومقعدون على كراسى متحركة وأطفال وسط الحجاج ومجموعات من الآسيويين والأفارقة تصر على التحرك مع بعضها، المشهد يدعو للشفقة، لكنه يدعو كذلك للرحمة والتراحم والإعجاب بهذا الدين، وهؤلاء الذين جاءوا من أنحاء الدنيا يرجون رحمة ربهم فى أيام معدودات، كانت التلبية لا تنقطع، فالتلبية فى الحج تبدأ من النية وحتى رمى الجمرات، كان همى ألا أؤذى أحداً وأن أعفو عن أى أذى أتعرض له نتيجة الزحام، كان أغلب الناس أو كلهم يتسامحون، بينما القلة يبدون ضجرهم أو ضيقهم أو غضبهم، لكن سرعان ما كان يتدخل الجميع ليطفئوا النيران ويصرفوا الشيطان، عبر العبارة الجميلة «حج يا حاج». «نكمل غداً»

Total
0
Shares
السابق
عدنان سعد الدين

عدنان سعد الدين ج 8 : مساعدة صدام للإخوان..وجرائم رفعت الأسد..ومذبحة حماة

التالي

الطريق إلى الجمرات (4)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share