الطريق إلى الجمرات (4)

كنت أخشى من شدة الزحام أن يحدث تدافع بين المشاة من الحجاج فى أى لحظة، ومن ثم تحدث كارثة، لكن لطف الله ورحمته كانا يلازماننا، لاسيما وبيننا كثير من الشيوخ الركع والأطفال الرضع، وكنت أنظر إلى مبنى الجمرات فأجده قريباً لكن بطىء المسير والزحام كان يجعله بعيداً جداً، وبعدما يقرب من أربع ساعات من المسير وصلنا إلى الجمرات، حيث توزعت الحشود على الأدوار الأربعة وخف الزحام، وفى هذا اليوم ترمى جمرة العقبة الكبرى فقط بسبع حصوات، وعند الجمرات تجد العجب العجاب، حيث يصب الجميع لعناتهم على إبليس حسب معاناة كل منهم، وكان أعجب ما رأيت مجموعة من الرجال كانوا يقفون على جانب يحمسهم أحدهم ضد إبليس، وحينما اقتربت لأرمى الحصوات سمعته يقول لهم بحماسة «اهجموا.. اهجموا» حاولت الابتعاد مسرعاً عن طريقهم، لكن ضربة من أحدهم جاءت أسفل رأسى فكادت تفقدنى الوعى وبقيت عدة أيام أعانى منها، وحمدت الله أن وفقنى فى الرمى وبقى على أن أحلق أو أقصر شعرى وأتحلل، أما أعجب وأطرف ما سمعت أن أبناء جاؤوا بأبيهم للحج وقد تجاوز السبعين ولم يحج من قبل، وحينما جاؤوا به لرمى الجمرات قال لهم ما هذا؟ قالوا ترمى إبليس؟ قال لهم: أنا ليس بينى وبين إبليس أية مشاكل وعلاقتى به طيبة فلماذا أرميه؟ وتقول الرواية أن الرجل رفض وعاد دون أن يرمى؟ وما سمعت عن بعض المترفين أنهم يرمون إبليس بتردد بسبب العلاقة الحميمة معه وقد روى عن أحدهم أنه وهو يرمى كان يقول «اللهم اخزيك يا شوشو» فسأله آخر وقال له: هل شوشو زوجتك؟ قال له لا: «إنه الشيطان أدَلله لأنى أحتاجه أحياناً»، وروى لى أحد شيوخ الحملة أنه فى حجة سابقة «سمع أماً تحفز ابنتها قبل رمى الجمرات وتقول لها: هذا هو الشيطان الذى فرق بينك وبين زوجك عليك به هذا الملعون، فخلعت الابنة حذاءها وتوجهت بكل قوتها لترمى بها إبليس». وكان بعض الحجاج من حماسهم يلقون بأحذيتهم، وكنت أجلس مع أحد شيوخ الحملة فجاء أحد الشباب بحجر كبير وقال له: يا شيخ هل تصلح هذه؟ ضحك الشيخ وقال له: هذه تنم عن أن ثأراً مبيتاً بينك وبين إبليس، هذا حجر كبير وليست حبة من الحصى، ويروى عن بعض بسطاء الناس أنهم يتصورون أنهم سوف يرون إبليس وهم يرجمونه أو أنه يعيش فى هذا المكان. عدت إلى السكن فى منى فوجدت الحجاج الذين تركتهم فى الباص وذهبت سيراً على الأقدام وصلوا للتو، وقالوا لى: لقد قضينا أربع ساعات فى الباص فى تلك المسافة القصيرة، فقلت لهم لقد قضيت مثلها فى المسير ولكنى رميت وهم لم يرموا بعد، فقال بعضهم: ليتنا جئنا معك، أما الذين ركبوا القطار من مزدلفة إلى الجمرات فقد كانت معاناة بعضهم أكبر من ذلك؛ حيث بقى بعضهم ما يقرب من ثمانى ساعات حتى جاءهم الدور وركبوا القطار، الجميع كان يعانى فى الوقت الذى يمكن أن تكون المعاناة قليلة لو كان النظام والترتيب أدق، وإذا كان عدد الحجاج ثلاثة ملايين أو أكثر، فإن الحج بدأ قبل أربعة عشر قرنا وسوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو فرصة للمسلمين أن يجتمعوا من أرجاء الدنيا فى أيام معدودات ليذكروا الله ويؤدوا الفريضة ويتعارفوا فيما بينهم، ويحققوا غايات كثيرة، من ثم يجب تذليل الصعاب التى تحدث كل عام لأن الزحام والمعاناة تقتل الخشوع والتبتل والتضرع والدعاء والتلبية، وتصرف الناس إلى مشكلاتهم، وتدفع بعضهم إلى أن يؤذى غيره أو يأتى من ضيقه وقنوطه بتصرفات تبطل حجه أو تنتقص منه أو تضعه فى إطار الحرج مع نفسه ومع الناس، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وهذا يدل على صعوبة تحقيق ذلك إلا من رحم ربك من الناس.. نكمل غداً.

Total
0
Shares
السابق

الطريق إلى الجمرات (3)

التالي

الطريق إلى الجمرات (5)

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share