الصراخ الجماعى فى مصر

حينما تأملت المشهد العام فى مصر خلال الأيام الماضية وجدته لا يخرج عن كونه حالة من الصراخ الجماعى من كل فئات المجتمع؛ فالمظاهرات الفئوية لم تتوقف، حتى إنى سمعت أرقاما مفزعة عن أعدادها التى أصبحت بآلاف الوقفات، أصحابها يصرخون أحيانا فى الميكروفونات ويبدو أنهم لم يعد يسمع لهم أحد؛ فصراخهم العالى لم يعد يطرب أحدا سواهم، لكنهم لا يتوقفون عن الصراخ من أسوان وحتى الإسكندرية، ورغم أنى أتحاشى الذهاب إلى قلب القاهرة، فإننى حينما أكون فى مصر أضطر كل يوم تقريبا للذهاب إلى وسط القاهرة فأجد الجميع يصرخون، سائقو السيارات السيرفيس يصرخون بأبواق السيارات طوال الوقت ومساعدوهم يصرخون من خلال المناداة على الركاب، والباعة الجائلون يصرخون من أجل الترويج لبضائعهم، والناس تصرخ على بعضها ولا يتحمل أحد أحدا، حتى إنى فيما يطلق عليه الأحياء الراقية فى القاهرة أجد الناس يصرخون على بعض لأسباب تبدو تافهة إلى حد بعيد، لكنها تعكس الحالة النفسية العامة للناس فى هذه المرحلة، لكن أخطر أنواع الصراخ ذلك الذى يصدر على شاشات القنوات الفضائية والذى عادة ما يكون من الضيوف لكنه فى مصر بشكل خاص أصبح من مقدمى البرامج والضيوف، فقد أصبح مقدمو البرامج فى معظم الفضائيات المصرية طرفا فى كل الأحداث والمعارك السياسية القائمة فى البلاد حتى وصل بعضهم أو كثير منهم إلى مرحلة الردح والسب والقذف والتطاول على من يريدون بمن فيهم رئيس الدولة، لم أصدق وأنا أشاهد فقرة لأحد مقدمى البرامج يردح لرئيس الدولة الدكتور محمد مرسى ويوجه له اتهامات وعبارات لا تليق أن تقال فى الشارع لأحد، لكنها كانت تُبث من محطة فضائية ولرئيس الدولة، وكأن هناك حالة من الفجور تجاوزت الأخلاقيات بكل معانيها ولم تعد تجد من يردعها أو يوقفها، هناك فرق بين الحريات وتجاوز الأخلاقيات، وفرق بين النقد والشتائم، ولو نظرنا إلى حجم القضايا المرفوعة من شخصيات عامة، سواء ضد بعضها أو ضد صحفيين ومذيعين ومقدمى برامج أمام النيابة العامة، لوجدناها ربما تكون الأكثر عددا فى تاريخ القضاء المصرى؛ لأن الكل يسب ويقذف وكأنما الشتائم والسب والقذف أصبحت هى اللغة السائدة، كنت حريصا على متابعة برامج «التوك شو» فى الفضائيات المصرية لأسباب مهنية ومعرفية، لكنى الآن لم أعد أشاهد أيا منها حتى لو عندى وقت؛ لأن معظمها تحول إلى مستنقعات للصراخ والشتائم، وأصبح الضيوف مثل المطربين الذين يؤدون وصلات غنائية فى الملاهى والفنادق، يخرج من هذه القناة إلى تلك ومن هذا البرنامج إلى ذاك، حتى إن بعضهم يظهر ثلاث مرات أو ربما أربعا فى اليوم الواحد على قنوات مختلفة بنفس الملابس، كما ذكر لى بعض الذين يرصدون هذه التجربة الهزلية التى لم تحدث فى تاريخ الإعلام أو السياسة المصرية، وربما ليس لها وجود فى بلاد أخرى، وللأسف نجد كثيرا من الفارغين الذين أتيحت لهم فرص الظهور اليومى أو المتكرر على الفضائيات أصبحوا من نجوم المجتمع وقادة السياسة وصانعى الأحداث ومحركى التظاهرات، وكثير منهم كانوا ذيولا لأمن الدولة ومخبرين فى النظام السابق وإذا بهم الآن يتحدثون وكأنهم من أبطال الثورة أو قادة السياسة فى البلاد، وبعض هؤلاء الذين يمارسون الصراخ أصبحوا أشهر من كثير من مقدمى البرامج الذين يستضيفونهم. دراسات علمية كثيرة ذكرت أن الضوضاء والأصوات العالية تؤثر على الجهاز العصبى للإنسان، كما أن انتشار الأمراض القاتلة مثل السكتة الدماغية والموت الفجائى سببه الضوضاء والتلوث السمعى والصراخ؛ لهذا فإن حالة الصراخ الجماعى التى يعيشها المجتمع المصرى يمكن أن تكون لها آثار وخيمة على الشعب من الناحيتين الصحية والنفسية، كما أن ما يحدث من مهازل على شاشات الفضائيات يعكس حجم المستنقع الذى وصل إليه حال الإعلام والإعلاميين فى مصر، هذه الحالة لا تحدث فى الأمم إلا حينما يضعف الحكم والحزم ويتهاون صانع القرار ويتخبط ويفقد الرؤية ويضيع منه الهدف، فتطفو الطحالب على السطح، ويكثر الضباب وينتظر الجميع مخرجا يجعل الناس تكف عن الصراخ وتتفرغ للعمل وبناء مصر من جديد.

Total
0
Shares
السابق

الطريق إلى الجمرات (7)

التالي

معركة الدستور فى مصر

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share