حكايات جورج صبرا 2

يكمل جورج صبرا قصة هروبه من سوريا عبر الحدود مع الأردن قائلاً: «كان عبور الساتر الترابى المرتفع على الحدود والذى يمثل المرحلة الأخيرة من رحلة الهروب هو الفاصل بين الحياة والموت، فمن الممكن أن يموت الإنسان برصاصة قناص وهو يعبر الساتر حيث يكون مكشوفاً ومن الممكن أن يتجاوزه إلى الجانب الآخر فتُكتب له الحياة ويخرج إلى الحرية، وهذا ما فعله عشرات الآلاف من السوريين، بينهم نساء وأطفال وعجائز وعائلات بأكملها، أمسكت بطرف ملابس ابنى وانطلقت فى إثره وأنا أعد أنفاسى، وشعرت أننا نركض بطاقة غير بشرية لنهرب من الموت، وكانت قفزتنا فى الجانب الآخر من الساتر الترابى حياة جديدة بالنسبة لنا، تحسست جسدى وجسد ولدى وقلت له: هل ما زلنا أحياء؟ نعم ما زلنا أحياء، وقد كانت هذه هى المرة الأولى التى أغادر فيها سوريا منذ العام 1979، ويؤسفنى أنى غادرتها بهذه الطريقة هارباً من جحيم النظام، حيث اعتُقلت مرتين بعد اندلاع الثورة؛ الأولى بعدما شاركت فى أول تظاهرة اندلعت فى مدينة قطنا، فى العاشر من أبريل 2011، وقد اعتُقلت فى إثرها، مع عشرات من أهل قطنا واعتُقل معى أربعة عشر مسيحياً آخرين شاركوا فى التظاهرات، وأود هنا أن أنوه إلى العلاقة التاريخية بين المسلمين والمسيحيين فى سوريا، فنحن المسيحيين ثقافتنا عربية إسلامية، وكان يوحنا الدمشقى، خازن بيت المال فى عهد عبدالملك بن مروان والوليد بن عبدالملك، مسيحياً، كما كان الشاعر الأخطل التغلبى، مسيحياً، وكان من جلساء عبدالملك بن مروان أيضاً، وعشرات آخرون غيرهما، وفى العصر الحديث كان فارس الخورى رئيساً لوزراء سوريا، كما كان هناك وزراء مسيحيون فى الأستانة، وقد وضع المسلمون فارس الخورى وزيراً للأوقاف فى مرحلة الاستقلال، وأذكر أنى حينما كنت مطارداً من النظام فى الفترة بين عامى 1984 و1987 كنت أختفى فى بيوت معارف وأصدقاء من المسلمين، وحينما حُكم علىّ بالسجن لمدة ثمانى سنوات من محكمة أمن الدولة العليا فى العام 1987 بتهمة تقويض النظام، قضيت المدة فى سجن صيدنايا، منها أربع سنوات فى زنزانة انفرادية، لم يكن أهلى يعلمون عنى شيئاً، وحينما نقلونى للعنابر وجدت فى السجن مسجونين من الإخوان المسلمين بعضهم لا يعلم أهلهم عنهم شيئاً منذ خمسة عشر عاماً، وكان أهلهم يعتقدون أنهم فى عداد الموتى، وحينما سمح لزوجتى بالمجىء لزيارتى بعد أربع سنوات كنت أرسلها إلى بيوتهم برسائل لتخبر أهلهم أنهم ما زالوا على قيد الحياة وبخير، وكانت بعض العائلات تخاف وتقلق، وعائلات كانت تطلب علامات للدلالة على أن أبناءها بين الأحياء وفى السجن فكنا نرسل لهم، لقد كانت نظرة بعض المعارضين آنذاك للإخوان المسلمين أنهم كائنات لها أنياب ومخالب، وكان الإخوان ينظرون للمعارضين من الشيوعيين وغيرهم على أنهم كائنات غير أخلاقية، وحينما نُقل بعض الإخوان من سجون أخرى إلينا فى سجن صيدنايا جاءوا شبه عرايا تقاسمنا معهم الملبس والمأكل، واقتربنا إنسانياً من بعضنا البعض، واكتشفنا أننا أبناء وطن واحد، لنا هم واحد، غير أن كلاً منا له رؤيته فى البحث عن مخرج لأزمة الوطن، لقد كان الاقتراب الإنسانى من بعضنا البعض فى هذه المرحلة له دوره فى التفاهم الذى حدث فيما بعد، وقد اكتشف الإخوان أن لدينا قيماً وأننا لسنا بالصورة التى كانت تروج عنا، ومن ناحيتنا فقد اكتشفنا الجوانب الإنسانية والوطنية فى نفوسهم، وهنا أذكر من الطرائف التى لا أنساها أننى حينما قُبض علىّ للمرة الثانية بعد الثورة فى شهر يوليو من العام 2011 فى قطنا، وقضيت شهرين فى السجن ثم أُفرج عنى بعد ضغوط داخلية وخارجية، حينما كنت أحاكم أمام القضاء كانت تهمتى إقامة إمارة إسلامية فى قطنا، فقلت لهم: هل مات المسلمون فى سوريا ولم يعد منهم أحد حتى يقودهم مسيحى لإقامة إمارة إسلامية فى قطنا؟ إن هذا يعكس حجم المهازل التى يمارسها هذا النظام والفساد القائم فى منظومة القضاء أن يقبض على مسيحى ويحاكم بتهمة إقامة إمارة إسلامية فى قطنا. نكمل غداً.

Total
0
Shares
السابق

حكايات جورج صبرا: (1)

التالي
أحمد بنّور

أحمد بنّور ج1 : علاقة الحبيب بورقيبة بالأميركيين والفرنسيين قبل استقلال تونس

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share