العمق الإسرائيلي الهش

كنت فى طريقى من إسطنبول إلى عمان على متن الخطوط الأردنية، وعلم كابتن الطائرة أنى على متنها فأرسل إلى ليستضيفنى فى قمرة القيادة، ذهبت وسلمت عليه وعلى مساعده، ثم استأذنته فى العودة إلى مقعدى لكنه قدم لى عرضاً سخياً جعلنى أغير موقفى، فقال لى: أما تحب أن ترى القدس وقبة الصخرة من الطائرة؟ قلت له: ومن يرفض هذا العرض السخى الذى هو حلم الكثيرين؟ من المؤكد أنى أحب أن أراها، قال: إذن اجلس معنا فنحن فى طريق الهبوط إلى عمان سوف نمر من فوقها لأنها فى الممر الجوى لنا، جلست إلى جوارهم نتحدث وبدت شواطئ فلسطين المحتلة من بعيد وسرعان ما دخلنا أجواءها وما هى إلا دقائق معدودة حتى كنا فوق القدس وسرعان ما خرجنا من حدود فلسطين المحتلة، قلت للكابتن: لقد مررنا بسرعة وكأنه لا يوجد عمق لمساحة فلسطين، قال إن العمق محدود والطائرة المدنية تقضى المسافة من البحر وحتى حدود الأردن فى خمس دقائق تقريباً، وهذا يؤكد أشياء كثيرة، من أهمها أنه لا يوجد عمق جغرافى لإسرائيل التى زرعت مكان فلسطين عام 1948 مما يجعل كل مدنها هدفاً سهلاً لأى ضربات عسكرية صاروخية على وجه الخصوص، وهذا ما جعل حرب يوليو «تموز» فى عام 2006 من خلال الصواريخ التى أطلقها حزب الله وسقطت على شمال إسرائيل تدفع ثلث شعب إسرائيل للبقاء فى الملاجئ أياماً طويلة وجعل القيادة الإسرائيلية ترضخ لوقف الحرب لأنها ليس لها قدرة على خوض حرب طويلة، وما حدث فى عام 2006 تكرر فى عام 2008 حينما عجزت إسرائيل عن دخول قطاع غزة، رغم استخدامها أسلحة محرمة دولياً وهجومها الشرس بالدبابات والطائرات، واستخدامها كميات هائلة من القنابل والصواريخ التى دكت بها القطاع وحولت الآلاف من مبانيه إلى ركام، لكن شراسة المقاومة وصواريخ المقاومة التى تصنع يدوياً فى القطاع أجبرت إسرائيل فى النهاية على أن توقف الحرب، ولأن الحكومة الإسرائيلية الحالية تمارس سياسة الانتحار بعدما بدأت الخرائط السياسية تتغير فى المنطقة بفعل الثورات العربية، فقد بدأت بشن هجومها الجديد على غزة وقتلت قائد كتائب القسام أحمد الجعبرى، لكن صواريخ المقاومة نالت منها وبشكل جديد هذه المرة، لأن وصول الصواريخ إلى القدس وتل أبيب يعنى أن معادلة المعركة قد تغيرت تماماً ويعنى أن العمق الجغرافى لإسرائيل أصبح مهدداً بشكل كبير، وهذا يعنى أن اليهود الذين تجمعوا من أنحاء العالم فى أرض الميعاد سيعيدون التفكير فى الهجرة والإقامة، وهذا ما حدث خلال السنوات التى تلت حرب يوليو عام 2006 فقد انخفضت نسب المهاجرين إلى إسرائيل فى الوقت الذى ارتفعت فيه نسبة الهجرة المعاكسة من إسرائيل إلى خارجها، كما يعانى الاقتصاد الإسرائيلى من صعوبات، علاوة على التغيرات الكبيرة التى حدثت فى مصر ودول عربية أخرى، حيث قامت الشعوب بثورات وتغيرت الأنظمة التى كانت موالية لإسرائيل وأصبحت الأنظمة موالية للشعوب وآمالها، إن قيام حركة حماس بإسقاط طائرة تجسس إسرائيلية والإعلان عن إسقاط طائرة حربية يجعل السلاح الأقوى لدى إسرائيل وهو سلاح الطيران فى مرمى نيران المقاومة، وهنا تكشف المقاومة عن امتلاكها صواريخ مضادة للطائرات، مما يعنى أن طائرات إسرائيل لن تصول وتجول وتقصف القطاع كما كانت تفعل من قبل، إسرائيل لم يردعها فى تاريخها مجلس الأمن أو القرارات الدولية، وإنما كان ردعها دائماً يأتى من طريق المقاومة، ولنا أن نتخيل حجم ما أنفقته إسرائيل على نظامها الصاروخى المسمى بالقبة الفولاذية لحمايتها من صواريخ المقاومة والذى تكلف ما يقرب من خمسة مليارات دولار فى مقابل صواريخ المقاومة التى لا تزيد تكاليف الواحد منها على بضعة دولارات، وهكذا تنهار القوى العظمى بأسلحة بسيطة، كما يقول المؤرخ الأمريكى بول كيندى فى كتابه «نشوء وسقوط القوى العظمى»، حينما تبلغ قوة عظمى مكانة عسكرية مرموقة فى أسلحتها وقوتها تأتى قوة أخرى أقل منها وبسلاح بسيط فتدمر الآلة العسكرية المدمرة للقوة الكبرى، وهكذا غيرت صواريخ المقاومة معادلة المواجهة بعدما أصبحت تستطيع الوصول إلى عمق إسرائيل وتهدد قادة إسرائيل ومبانيها الاستراتيجية.

Total
0
Shares
السابق

حكايات جورج صبرا (4)

التالي

طبول الحرب تدق

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share