حرفة نشر الأكاذيب

كلما تصفحت صحف الصباح فى مصر وجدت كماً من الأخبار الكاذبة والإشاعات المغرضة يهدد مهنة الصحافة فى مصر وينال من مصداقيتها، وهذا الأمر أصبح للأسف حرفة لدى بعض الصحف وعدد لا بأس به من الصحفيين، فمما تعلمته فى هذه المهنة وامتهنته منذ صغرى هو تحرى دقة الأخبار، ومما تعلمته أيضاً أن الصحفى يتميز بدقة مصادره ودقة صياغته للأخبار وأن الدقة هى الفارق الأساسى بين الصحفى الذى يحترف المهنة والصحفى الذى يسترزق منها، كذلك تعتبر الدقة هى الفارق بين الصحيفة المحترمة والصحيفة الصفراء، وأن الصحفى إما أن ينشر الحقيقة ويبصر الناس بها ويعمل على الارتقاء بمستواهم الثقافى والعلمى والأخلاقى، وإما ينشر الأكاذيب ويحط من قدر المجتمع وثقافته وأخلاقه، وقد نشأت فى مصر مدرسة صحفية احترفت نشر الأكاذيب عبر العناوين الكبيرة والمضامين الفارغة، وبرزت أسماء لامعة فى هذه المدرسة كبرت مثل البالونات من خلال هذه الحرفة التى طالما تناولت أعراض الناس وحياتهم وخصوصياتهم، وكانت بعض الأجهزة الأمنية والسيادية تقف وراء هؤلاء لأنهم فى النهاية كانوا جزءاً منها يخدمون أغراضها للنيل من معارضى النظام أو لتصفية حسابات شخصية وخاصة مع هذا الطرف أو ذاك أو لنشر الإشاعات التى هى حرفة لدى أجهزة الأمن والمخابرات، وقد أخذت خلال الأسبوع الماضى عينة من بعض الأخبار وسعيت للتحقق من دقتها فى مجالات مختلفة فوجدت بعض الأخبار مختلقة لا أساس لها وليست سوى صناعة خالصة من الصحفى أو الجهة التى أمدته بها ووضع اسمه عليها ونشرها، وهذا أمر كان وما زال شائعاً لدى بعض الصحفيين الذين يمتهنون المهنة من أبوابها الخلفية، ووجدت أخباراً أخرى بها جزء من الحقيقة وكثير من الأكاذيب، وأخبار بها خليط من الحقائق والأكاذيب أو ما يطلق عليه بعض المدلسين فى المهنة «البهارات». سألت بعض السياسيين الذين أصبحوا ضيوفاً دائمين فى منتدى الأخبار الكاذبة فى الصحف المصرية عن متابعتهم لأخبارهم، فقال بعضهم إنه وصل إلى مرحلة «جلد التمساح» أى أصبح لا يتأثر بما ينشر عنه ولا يهتم به، رغم أن بعضه ينال من سمعته ومكانته فى المجتمع، وآخرون قالوا إنهم كفوا عن قراءة الصحف، وآخرون أجدهم دائماً غاضبين، أما بعض المسئولين فقد أخبرونى أنهم يرسلون دائماً تصويباً أو تكذيباً لما ينشر عنهم أو مؤسساتهم ثم يفاجأون بالتصويب ينشر فى صفحة داخلية وبخط صغير لا يتناسب مع الفضيحة التى كانت على الصفحة الأولى وعلى عدة أعمدة، ووجدت قليلاً ممن تحدثت معهم يلجأون للقضاء، ومن خطورة ما نحن فيه الآن أن كل ما ينشر إلكترونياً على شبكة الإنترنت من المستحيل حذفه فأصبحت حياة الناس بما ينشر عنها من أكاذيب باقية إلى الأبد وملتصقة بهم، فى الغرب هناك ضوابط وقوانين تحفظ على الناس أعراضهم وخصوصياتهم، وهناك قواعد مهنية يحترمها الجميع، وهناك أيضاً صحافة صفراء لا هم لها سوى الفضائح وخصوصيات المشاهير، لكن كل شىء له ضوابطه وله أيضاً تعويضاته المادية الكبيرة التى أحياناً ما تؤدى إلى إغلاق الصحيفة أو إفلاسها. إننا بحاجة إلى ترسيخ الضوابط القانونية التى تحمى أعراض الناس وخصوصيات المجتمع وتضع غرامات باهظة على من ينشر الأخبار الكاذبة، وبحاجة إلى إعلاء شأن المهنة ومستوى الصحفيين العاملين فيها، وبحاجة إلى الصحافة الاستقصائية الجادة التى تخدم المجتمع وترفع ثقافة الناس وتعلى من شأن مسئولياتهم تجاه بلادهم ومجتمعهم، ولن يتحقق هذا فى ظل الفوضى التى تعيشها مصر فى شتى المجالات، وفى ظل استمرار تغول بعض الأجهزة على وسائل الإعلام. الناس فى عمومها لها ضابطان فى كل ما تفعل هما الأخلاق أولاً ثم القانون لمن لا أخلاق له، فحينما تنفلت الأخلاق لا مجال لضبطها إلا بالقانون، نحن فى مصر بحاجة إلى إعلاء شأن الأخلاق، وإلى أن يضبط الناس بالقانون وعلى رأسهم الصحفيون الذين يروجون الأكاذيب.

Total
0
Shares
السابق

تدمير التاريخ والجغرافيا فى سوريا

التالي

الغطاء السياسى للبلطجة

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share