التجربة الصينية ونهضة مصر «3 »

حينما قال العرب قديما «اطلبوا العلم ولو فى الصين» كانوا يتحدثون عن العصر الذهبى للصين آنذاك وتحديدا فى القرن الثامن الميلادى حينما استطاع الإمبراطور تانج شوان تسونج أن يحول الصين خلال فترة حكمه التى امتدت من 712 إلى 756 للميلاد إلى الدولة العظمى الأولى فى العالم وأكثرها تقدما فى علوم الطب والفلك والفلسفة والإدارة والرسم والعمارة والموسيقى والآداب والسلوك الأجتماعى وحتى الملابس والأزياء، فجاءت وفود الطلاب إلى الصين للتعلم من كل أرجاء الدنيا وليس من الدول المجاورة فحسب بل من شمال إفريقيا واليابان التى أرسلت آنذاك أكثر من عشرة وفود من الطلاب للإقامة والدراسة، كما أرسلت الهند مثلهم، وازدهرت علاقات الصين الخارجية سواء على مستوى العلاقات التجارية أم على المستوى الديبلوماسى حتى بلغ عدد الديبلوماسيين والتجار الأجانب المقيمين المعتمدين فى الصين آنذاك أكثر ثلاثة آلاف سفير وتاجر مقيم، ومع حركة التجارة الواسعة بين الصين ودول العالم كانت شوارع المدن الرئيسية مثل «هشى» و«تانسو» و«شنجان» و«شيانيانج» تعج بالتجار من بلاد فارس وآسيا الوسطى وأوروبا والجزيرة العربية وشمال إفريقيا واليابان ودول المحيط الهادى والهندى يبيعون ويشترون فكانت الصين أشبه ما تكون اليوم، وقد رأيت هذه الوجوه وأكثر منها حينما زرت الصين وطفت بمدن «شينزن» أكبر مدينة للتكنولوجيا فى العالم، و«دنجوان» أحد أكبر المدن التى تضم آلاف المصانع، و«هانزو» مدينة الحرير والشاى، و«جوانزو» مدينة التجارة والمعارض، حيث بها أرض للمعارض يبلغ حجمها ستة كيلو مترات تقيم معارض دولية على مدى العام فى كل شىء، حيث ترى التجار والزوار من كل أرجاء الدنيا جاءوا إلى الصين بعد ألف ومائتى عام من حكم شوان تسونج، حيث استرجعت ما كانت عليه حينما دخلها الإسلام فى القرن الثامن على أيدى التجار كما دخلتها البوذية عبر تجار الهند والمسيحية عبر تجار أوروبا، وقد كانت مدنها مزدهرة فى ذلك الوقت حتى أن شوراعها كانت تضاء فى الليل.

 شعرت وأنا أمشى فى شوارع تلك المدن وأطالع الوجوه التى جاءت إلى الصين من أطراف الدنيا، أنى أعيش فى ذلك العصر المزدهر عصر شوان تسونج وسلالة تانج الذى قال عنه العرب مقولتهم المشهورة «أطلبوا العلم ولو فى الصين»، فالتاريخ لا يتكرر ولكن صناعة التاريخ هى الحرفة التى تتكرر حينما تجد من يجيد صناعتها ويفهم أدواتها وكيف يختار ويستعين برجالها، حينما بحثت فى السر الذى جعل شوان تسونج متميزا فى سلالة تانج واستطاع أن يحول الصين إلى الدولة العظمى الأولى فى العالم وأن تكون قبلة المتعلمين ووجهة التجار ومبتغى الديبلوماسيين فى القرن الثامن الميلادى، وجدت السر يكمن فى عدة أمور، على رأسها الاستعانة بأشخاص يتمتعون بالجد والمثابرة والاستقامة والفضيلة ثم وضع النظام الادارى الذى يتجاوز بيروقراطية الدولة، وكان صاحب رؤية تتجاوز حدود سور الصين العظيم إلى العالم الذى وراءه، لذلك وصلت الصين فى عهده إلى أن تصبح القوة العظمى الأولى وأن تكون محور اهتمام العالم وأن تستقطب الكفاءات فى كل المجالات دون حروب أو مؤامرات، لكن الذين جاءوا من بعده من سلالته لم يسيروا على نهجة، فانهارت الدولة وسقط حكم عائلة تانج فى القرن العاشر الميلادى، وأحرقت نيران الحروب تلك الحضارة الزاهرة وجاءت من بعد سلالة تانج سلالات سونج ويوان ومينج وتشينج وعصور الدويلات والحروب حتى جاء جنكيز خان فقام بتوحيد الصين ثم تفرقت من بعده وكانت عوامل النهوض والسقوط واحدة فى كل السلالات حتى قامت الثورة فى العام 1911، وتأسس الحزب الشيوعى الصينى فى العام 1921، وكان شعاره «أطيحوا بالصين القديمة» لكن العالم لم ينتبه حتى ظهر ماوتسى تونج فى ساحة تيان آن فى بكين فى الأول من أكتوبر عام 1949 ليعلن للعالم أن «جمهورية الصين الشعبية تأسست اليوم» ظلت الصين بعدها تعيش تحت الاستبداد والفقر والقمع لاسيما بعد الثورة الثقافية التى أعلنها ماو عام 1966 ولكن بعد وفاة ماو القبض على عصابة الأربعة التى كانت زوجته على رأسها بدأ الصينيون يتحررون ويصنعون حضارتهم الجديدة ويعيدون أمجاد عصر تانج سوان تسونج ولكن بثوب جديد، فهل تجد الثورة المصرية من يعيد أمجاد مصر ويحقق آمال المصريين؟

للمزيد

Total
0
Shares
السابق

التجربة الصينية ونهضة مصر «2»

التالي

حرب القمح في مصر

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share