التجربة الصينية.. ونهضة مصر(1)

بهرنى تاريخ الصين بحروبه وعائلاته الملكية وعوامل النهضة والتقدم والسقوط والتراجع فيه ومصر الآن بحاجة إلى أن تستلهم تجارب الآخرين حتى تنهض بعد كبوتها وتترجم ثورة الشعب إلى نهضة عظيمة فى كافة جوانب الحياة، لذلك وجدت تاريخ الصين مدرسة عظيمة لمن أراد أن يتعلم فن القيادة والحكم ويرسم طريق النهضة والبناء، وأهم شيء اكتشفته أن النهضة التى تعيشها الصين الآن ليست الأولى، وإنما هى تكرار لعدة حضارات قامت فى الصين خلال أكثر من ثلاثة آلاف عام وقد حرصت على أن أعرف تاريخ الصين من داخله فذهبت إلى مدينة شاوسينج حينما علمت أنها أقدم مدن الصين التى مازالت قائمة حيث يزيد عمرها على ألفين وأربعمائة عام، مشيت فى شوارعها أشم رائحة التاريخ وعبق الحضارات الغابرة حيث الأنهار التى مازالت تجرى فى طولها وعرضها منذ أقدم العصور والتى يزيد مجموع طولها عن 1900 كيلو متر، وفى كل مكان تجد من يعرض عليك ركوب المراكب التقليدية القديمة التى ترتب لك جولة تتعرف من خلالها على المدينة وتاريخها وكيف نشأت الحضارة الأولى فيها من خلال صفحة المياه فى هذه الأنهار، ولولا رائحة التوفو المؤذية التى تنبعث من المطاعم وتملأ الشوارع وهى أكلة يحبها الصينيون لها رائحة كريهة لبقيت فيها أياما أكثر.

من أهم ماوقفت عنده هو عوامل النهضة فى العهود الملكية الصينية المختلفة طيلة هذه القرون، كان أول ازدهار للحضارة الصينية فى حقبة تشين حيث نجح ملكهم بينغ تشنج فى سنة 221 قبل الميلاد فى توحيد ممالك الصين السبع تحت سلطته وأقام سور الصين العظيم وبنى الطرق والقنوات ووضع الحروف الأبجدية وأقام نظام الأوزان والمقاييس لكن حقبة تشين لم تدم طويلا بسبب القسوة على الشعب والنظام الإقطاعى الاستبداى الذى أقاموه، مما أدى إلى ثورة الفلاحين عليهم وإسقاطهم وبداية عهد الهان، حيث قامت للهان سلالتان شرقية وغربية أسقط الفلاحون الشرقية مرة أخرى بعدما حكموا الصين من 225 قبل الميلاد إلى 8 بعد الميلاد، وكان لابد من الحروب مرة أخرى لتوحيد الصين وقد حكمت سلالة الهان الشرقية الصين بعد ذلك بين عامى 25 إلى 220 بعد الميلاد، وكان من الطبيعى لحكام الهان الذين أخذوا بعوامل النهضة آنذاك أن يحققوا نجاحات كبيرة على الصعيد الاقتصادى والعلاقات الخارجية، فالصين التى تملك كميات هائلة من الملح تكفيها لآلاف السنين عرفت منذ ذلك الوقت بتجارة الملح عالميا وكان موردا رئيسا من موارد الدولة، وكذلك الحديد الذى تملك الصين حاليا من احتياطاته 44 بليون طن وهى بذلك تعتبر واحدا من أكبر احتياطيات الحديد فى العالم، عرفت فى ذلك الوقت قبل حوالى ألفى عام بتجارة الحديد وكانت الدولة تحتكره وقد أدى مع الملح إلى موارد مالية واقتصادية هائلة ساهمت بشكل مباشر فى نهضة البلاد آنذاك، فقام الإمبراطور تشانج تشيان بإيفاد المبعوثين إلى الدول وإقامة العلاقات معها، وأمن طرق التجارة، فامتدت تجارة الحرير والمنسوجات التى تشتهر بها الصين حتى الآن عبر القوافل التجارية من الصين إلى الإسكندرية فى مصر ومنها إلى أوروبا عبر طريق الحرير الذى وصل طوله آنذاك إلى سبعة آلاف كيلو متر، ومن خلال طريق الحرير نقلت الصين تجارتها وحضارتها التى كانت متقدمة نسبيا إلى الأمم الأخرى، وكان التجار فى طريق عودتهم يحملون معهم غرائب الأمم والحضارات التى كانوا يتاجرون معها أو يمرون بها، وأذكر خلال تغطيتى للحرب الأفغانية إبان الاحتلال السوفيتى بين عامى 1987 و1990 أننى مشيت فى بعض ممرات هذا الطريق مرافقا لرحلات المجاهدين الأفغان آنذاك أيضا على البغال والخيل التى سبقتنا قبل آلاف السنين وكانت تملأ هذه الجبال صهيلا وجلجلة وكم تخيلت تلك القوافل والدروب الطويلة التى كانت تسلكها عبر الجبال والسهول والهضاب شتاء فى الثلوج وصيفا بين جمال الطبيعة وسحرها، ولم يكن اختيار هذا الطريق عبثا ولكن السر فيه يكمن فى عيون الماء على طول الطريق التى مازالت حتى الآن تروى ظمأ القوافل منذ آلاف السنين، وقد بهرنى جبل مواز لطريق الحرير فى أحد أودية محافظة لوجر فى أفغانستان يمتلئ بعيون الماء التى تتفجر من جميع جوانبه وتشكل فى سفحه نهرا صغيرا وجدته يروى معظم مناطق الوادى، وكنت وقتها أرافق كلا من البروفيسور برهان الدين ربانى وعبد الرسول سياف وكليهما كانا من قادة المجاهدين آنذاك وكانا فى رحلة تاريخية مشتركة داخل أفغانستان من أجل توحيد الفصائل، قال لى ربانى وكان أديبا وبليغا فى اللغتين العربية والفارسية : نحن نسميه الجبل الباكى من كثرة عيون الماء فيه يا أحمد… نكمل يوم السبت

للمزيد:

Total
0
Shares
السابق

الصين فى عهد مبارك (2)

التالي

التجربة الصينية ونهضة مصر «2»

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share