لماذا لم يُكمل مراد غالب شهادته على العصر ؟

مراد غالب

نُشر المقال فى 8 يناير 2008

// حينما سألت الدكتور مراد غالب مهندس العلاقات المصرية السوفييتية و وزير الخارجية المصري الأسبق في إحدي جلساتي معه للتحضير لتسجيل شهادته في برنامجي التليفزيوني شاهد على العصر  عن رؤيته لما  آل إليه الوضع في مصر الآن وقراءته للمستقبل .. نظر إلي نظرة طويلة صامته ، ثم اغرورقت عيناه بالدموع ثم أجهش بالبكاء !! .

جلست في مكاني صامتا لا أتحرك ولا أتكلم وأنا أشعر بحرج بالغ مما سببته للرجل الذي جفف دموعه واستعاد رباطة جأشه – بعد قليل –  ثم قال لي : ”  أعتذر إليك لم أتمالك نفسي ” ،  فقلت له : ”  آمل ألا يكون في سؤالي ما يؤلم ، ولكنه السؤال الذي يسأله الجميع فى مصر الآن : ماذا حل بمصر ؟ وماهو مستقبلها في ظل ما هو قائم ؟ ولعلك من أقدر السياسيين ذوي الخبرة الذين يمكن أن أجد عندهم الإجابة .. ورغم أني سأسجل معك حلقات عن التاريخ لكني أعتقد أن الحاضر الذي تعيشه مصر الآن ، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ليس سوي إفرازاً ونتيجة لذلك التاريخ الذي شاركت أنت  مع آخرين  في صناعته ”  .

رغم أني سأسجل معك حلقات عن التاريخ لكني أعتقد أن الحاضر الذي تعيشه مصر الآن ، والمستقبل الذي لا يعلمه إلا الله ليس سوي إفرازاً ونتيجة لذلك التاريخ الذي شاركت أنت  مع آخرين  في صناعته

هموم مصر

قال الدكتور غالب : ”   الذي أبكاني هو  ما آل إليه وضع مصر الآن ، مصر تستحق أفضل من ذلك بكثير ، أفضل  مما حدث ويحدث لها  ، فحينما قبلت المشاركة مع رجال الثورة وكنت من المدنيين القلائل القريبين منهم حيث كنت أعمل أستاذا للأنف والأذن في كلية الطب وكنت صديقا منذ الطفولة لصلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي الذين قدموني بعد الثورة لجمال عبد الناصر وبعد ذلك  طلب عبد الناصر مني  أن أترك التدريس فى كلية الطب وأتفرغ للعمل السياسي معهم ،  كنت مليئا بالأمل أننا سنحول مصر إلي واحدة من أفضل دول العالم ،  فلدينا كل شيء يؤهلنا لذلك الموقع الجغرافي والتاريخ والإنسان وكافة العوامل الأخري التى يمكن لنا من خلالها أن نجعل مصر التى تقع جغرافيا فى قلب العالم أن تكون بالفعل قلب العالم ، لكننا للأسف أخطأنا جميعا ووصلت مصر بأعمالنا إلي ما وصلت إليه الآن ، مصر بلد عظيمة ، وكانت ولازالت بحاجة  إلي أناس عظماء ليضعوها فى المرتبة التى تليق بها .

وأضاف: هل تعلم لماذا قررت أن أبني هذه الفيلا هنا في الصحراء  حيث أقضي نصف  أيام الأسبوع  هنا ونصفها تقريبا في القاهرة   إلا  إذا كانت لدي اجتماعات هامة في منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية التى أرأسها ؟ ”  قلت له : ” لماذا ؟ ” قال : ” شعرت أني بحاجة إلي أن  أفكر فيما قمت به وما قدمته لبلدي  وما كان ينبغي علي أن أقدمه ، هنا أجد صفاء ونقاء وصلة بيني وبين الله افتقدتها طوال حياتي ، هل تعرف كم أن النهار هنا صاف وهاديء ؟  وكم أن الهواء نقي ومنعش ؟  وكم أن الليل هنا فى الصحراء ساحر  ؟  لاسيما حينما أنظر إلي السماء وأتأمل النجوم  وأتفكر فى خلق الله ، إنني أقضي ساعات مطولة هنا  في الليل  أتفكر فى النجوم والمجرات الهائلة في السماء وكأنني أعرف  وأري سماء مصر لأول مرة ،  وقد أتيتني وأنا أقرأ في واحد من أهم الكتب عن أسرار السماء والمجرات كتبه برفيسور أمريكي ، حيث فتح لي هذا الكتاب آفاقا واسعة ومعاني جليلة للتفكر والتمعن في السماء وخالقها  وبنائها وكواكبها ونجومها ومجراتها لاسيما مع سكون الليل وهدوء الكون من حولي ، كم  أشعر الآن بعظم الخالق سبحانه ، وكم أننا غافلين عن النعم وعن آيات الكون المحيطة بنا ، وأننا لا ندرك ذلك إلا في لحظات من العمر قد تكون متأخرة ، ولكني أحمد الله أنها أتت .

كنت مليئا بالأمل أننا سنحول مصر إلي واحدة من أفضل دول العالم ،  فلدينا كل شيء يؤهلنا لذلك الموقع الجغرافي والتاريخ والإنسان وكافة العوامل الأخري التى يمكن لنا من خلالها أن نجعل مصر التى تقع جغرافيا فى قلب العالم أن تكون بالفعل قلب العالم ، لكننا للأسف أخطأنا جميعا ووصلت مصر بأعمالنا إلي ما وصلت إليه الآن

مراد غالب

أما هم مصر فهو  من الهموم التى لا تفارقني هنا ، كثيرا ما أتألم في خلواتي هنا ، وكثيرا ما أبكي علي ما آل إليه وضع مصر ،  لكني عادة ما أكون وحدي  لكن سؤالك جعلني لا  أستطيع أن أحبس دموعي بعدما قلبت المواجع فى نفسي بهذا السؤال  الذي  صادف هماً  يلازمني  ،  وهو هم يصاحبه عجز وألم علي ما آلت الأوضاع في مصر  وما يمكن أن يؤول إليه مستقبلها  ، ولا أدري هل ما يبكيني هو العجز عن فعل ما كنت أود أن أفعله وأن أري عليه مصر حينما تركت الطب واشتغلت بالسياسة  ؟  أم الندم علي مشاركتي للآخرين فيما قاموا به وأوصلوا  مصر بتصرفاتهم  إلي ما وصلت إليه رغم أني لا أشك فى وطنيتهم  ؟  أم أن الإنسان في هذا السن تزداد عاطفته و تغلب عليه الجوانب  الإنسانية فيصبح رقيق القلب والنفس فيتعامل مع الأمور بصورة أخري فتتغلب عليه عاطفته وتكون دموعه هي الأقرب  في بعض  الأحيان ؟ كثيرا ما أفكر في الأنسان المصري وكيف أنه لم يأخذ حظه ليكون له دور فى تنمية بلده فلم يجد مفرا من أن يهاجر ليبدع  أو يعيش  يائساً محبطاً في بلده ، لقد فكرت كثيراً  فى فرص التنمية التى أهدرت وفي النتائج التى وصلنا إليها بعد هذه السنوات ولدي نقاش مطول معك فى هذا الموضوع  ” .

شعرت أن دموع الدكتور غالب أزالت كثيراً من الحواجز النفسية  بيني وبينه ، تلك الحواجز التى أبذل في بعض الأحيان جهداً كبيراً لإزالتها بيني وبين بعض ضيوفي لاسيما وأن الكثيرين منهم يعرفونني من خلال الشاشة  حيث أبدوا قاسياً كما يصفني البعض ،  لكني حينما أقترب منهم خارجها أقترب بإنسانيتي أكثر من مهنيتي ، لكن دموعه قربت كثيراً من تلك  المسافات بيننا حتى فارق السن الذي يزيد عن أربعين عاما شعرت أنه ذاب وتلاشي  حتى أصبحنا مثل الأصدقاء الذين يعرفون بعضهم منذ سنوات بعيدة فرقت بينهم الأيام  ثم جمعتهم مرة أخري وأصبحت هناك   ألفة عجيبة بيني وبينه ، حتى أنه في كثير من الأحيان كان يحدثني وكأني فى مثل سنه فيقول لي : ” هل تذكر الحادث الفلاني ” ثم يسمي حادثا وقع فى الأربعينيات أو الخمسينيات أو حتى بداية الستينيات من تلك الحوادث التى لم أقرأ عنها أو التى لا يعرفها سوي جيله هو ، فأقول له ببراءة وأنا أبتسم  : ” طبعا لا أتذكر هذا الحادث ، لأني لم أكن ولدت بعد ” ثم نغرق سويا فى الضحك ، وأذكر أنه حتى أثناء تسجيل بعض الحلقات كان يقول ذلك فأردد نفس الجملة ثم نضحك ،  فيروي لي هذا الحادث بشكل مفصل كأنما أشاهده الآن ، وهو في هذا الجانب  من أفضل من صادفتهم في الحياة ممن يجيدون الوصف ورواية المشاهد التاريخية كأنما تقع أمام المستمع أو المشاهد  الآن ، وأذكر أنه بعد  ذلك أصبح  هناك  تواصل دائم  بيننا  حتى أني  حينما كنت أتأخر في الإتصال به بعد ذلك بسبب أسفاري وانشغالاتي الكثيرة ، كان حينما يسمع صوتي عبر الهاتف بمجرد أن أحييه  يقول لي بطريقة أحببتها دائما  منه  وهو يصيح كأنما يحدث صديقا عزيزا يعرفه من قديم : ” أحمد … ياااااه ….إنت فين يا راجل ؟ هشوفك إمتي ؟  “

كان الفارق هائلا بين لقائي هذا  بالدكتور مراد غالب الذي كان في شهر أكتوبر عام 2006 في فيلا أقامها في مزرعة صغيرة في عمق الصحراء علي طريق مصر الإسكندرية الصحراوي ،  ولقائي به قبل  ذلك بأكثر من عامين  في شهر يوليو من  العام 2004    فى فيلته بقرية العبد  بالساحل الشمالي قرب مرسي مطروح ، لترتيب تصوير شهادته في برنامجي التليفزيوني ”  شاهد علي العصر ”  وذلك بعد اتصالات هاتفية معه وترتيبات استمرت ما يقرب من عامين  بدأت في العام 2002 ، وقد صحبت معي في تلك الزيارة  كلاً من الصديق  محمد مراد مهندس الديكور ـ ابن شقيق الدكتور غالب ـ  والزميل مصطفي حسين الذي كان من المقرر أن يقوم بإخراج البرنامج  آنذاك ،  والمهندس مصطفي عز الدين مهندس الإضاءة ، حيث كان المطلوب منهم أن يقرروا فنياً  مدي إمكانية التصوير فى الفيلا، لأن الدكتور غالب أبلغني أنه يقضي شهور الصيف كلها هناك ولا يعود إلي القاهرة إلا في أكتوبر ، وكنت وقتها قد أعددت نفسي للتصوير خلال شهر يوليو من العام 2004  لكن التقرير الفني كان هاماً بالنسبة لي قبل بدء التصوير لاسيما وأن الإضاءة ستلعب دوراً هاماً في التصوير  ، كما كان علي أن أرتب ما أسميه بجلسات الإستماع وهي جلسات عادة ما أعقدها مع شهود العصر للحديث بحرية وكسر الحواجز النفسية وتناول الفترات التاريخية التى سوف نتعرض لها حتى أقوم بعدها بترتيب المادة العملية ودراستها من الكتب والمصادر المختلفة ثم أحدد موعداً للتسجيل .

الطريق إلي الساحل الشمالي

استغرق الطريق من القاهرة إلي قرية العبد حيث كان يقيم الدكتور مراد غالب حوالي خمس ساعات  تعرضت خلالها  لانتقادات شديدة من رفاقي بسبب التزامي بسرعة الطريق حيث أني أتحاشي السرعة  دائما وأتجنب  أن أضع نفسي في مواضع الحرج مع ضباط المرور وأتعرض لسحب رخصة القيادة ، وبعد توالي الاعتراضات منهم اضطررت في النهاية أن أترك القيادة للمهندس محمد  مراد قبيل الوصول إلي منطقة  سيدي عبد الرحمن ، وفي أول خمس دقائق من قيادته للسيارة أوقننا من قبل شرطة المرور بسبب السرعة الفائقة التى كان يقود بها ، وكانت  المشكلة الأكبر  أن مراد لم يكن يحمل  رخصة القيادة فقد تركها في سيارته في القاهرة حينما التحق بي وركب فى سيارتي ، وبالتالي تم سحب رخصة السيارة ، فطلبت منهم جميعاً ونحن غارقون في الدعابة والضحك الساخر  أن يعيدوا القيادة لي أو يلتزم من شاء منهم بالقيادة بسرعة الطريق لاسيما وأن الرخصة التى سحبت هي لسيارتي وسوف أُساءل قانونياً  حينما أراجع إدارة المرور لاسترداد رخصة سيارتي عن سبب منحي القيادة لسائق لا يحمل رخصة قيادة  علاوة علي ضياع وقتي في محاولات  استعادة الرخصة ، ولعل التزامي بسرعة الطريق جعل الرحلة شاقة وطويلة  إلي حد ما علي الجميع  .

تشكيلة من الخمور

بعد هذه الرحلة الشاقة وا لمرهقة كان السؤال الأول من الدكتور مراد غالب بعدما وصلنا مفاجأ لنا جميعا فقد قال  : ماذا تحبون أن تشربوا ؟ وقبل أن يجيب أي منا واصل قائلا بجدية  : ” كل شيء متوفر .. فودكا.. براندي .. بلاك  ليبل  …  وقبل أن يستمر فى سرد أنواع الخمور المختلفة فوجئت بأن الرفاق جميعا ردوا عليه  بالرفض والاعتراض حتى كان رد بعضهم  يحمل شيئا من الأستنكار والحدة  بشكل أذهلني حتي أن أحدهم قال : ” أعوذ بالله … ” ،  ولأني كثير السفر وألتقي مع أنواع مختلفة من البشر من شتي الملل والنحل  فحينما أتعرض لموقف كهذا أعتذر بلباقة إلي مضيفي  وأخبره أني لا أشرب ولا أدخن وأفضل ألا  يتناول أحد الشراب أو التدخين في حضوري لأن هذا يسبب الأذي لي ،  أما إذا كنت أنا صاحب الدعوة و أضيف آخرين حتى لو كانوا من الغربيين من غير المسلمين  فإني أقول لهم بوضوح تام  أني لا  أدفع ثمن المشروب ولا أحب وجوده علي الطاولة لأن هذا  أمر ديني ألتزم به  ويؤذيني لو حدث ،  وعادة ما أجد احتراما وتقديرا والتزاما   من الآخرين حينما أخبرهم بهذا ،  ، لكن ردة الفعل  النافرة من الزملاء جعلت الدكتور غالب يشعر بالحرج  الشديد الذي بدا علي وجهه ،  فاعتذر من فوره  عن عرضه  وهو يلملم نفسه  وساد وجوم وصمت وتوتر قطعته بلطف قائلا للدكتور غالب : ”  أعتقد أن لديكم عصيرا يخفف عنا عناء تلك الرحلة الطويلة  ”  ،  ثم  أخذت أروي  له بدعابة  ما حدث معنا طوال الطريق وقصة قيادة المهندس مراد للسيارة وسحب الرخصة بعد دقائق معدودة من قيادته  وذلك حتى نغير مسار الكلام  وأزيل التوتر الذي حدث مع إضافة بعض مشاهد السخرية للقصة حيث أن المهندس مراد   أصر بعدما أوقفنا شرطي المرور أن أنزل من السيارة معه حتى إذا رآني ضابط المرور ربما يعرفني ولا يقوم بسحب الرخصة ورغم أني لا أحب هذه المواقف إلا أني ذهبت مع شروط من أهمها أني لن أتكلم علي الأطلاق مع الضابط ولن أطلب منه شيئا إن عرفني وتنازل عن سحب الرخصة دون كلام كان بها أما إن قام بإجراءاته فلن أتكلم ،  لكن الطامة الكبري أن الضابط لم ينظر إلينا ولم يرفع وجهه عن الدفتر الذي كان يسجل فيه المخالفات حتى أن مراد تعمد أن يستثيره حتى يرفع وجهه وينظر إلينا ربما يتعرف علي  إلا أن الضابط الذي كان يقف أمامه طابور طويل من المخالفين وكان يقوم بعمله بآلية وعجلة  ودون تفكير،  لم يرفع رأسه بينما كنت أكتم ضحكاتي من محاولات مراد  الذي حذرته من محاولة إحراجي .

كان الدكتور مراد غالب يتابع القصة بإنصات واهتمام بالغ  وحينما لاحظت اندماجه فى القصة معي حتى قال حينما وصلت إلي ذروة القصة التى تتلخص فى سحب رخصة السيارة قال  :  ” يانهار أبيض ؟ ” شعرت حينها  أن هذه  القصة قد أذهبت جو الحرج الذي ساد بعد عرضه تقديم الخمور إلينا  ،  ثم غيرت الحديث إلي اتجاه آخر وقلت  له : ” إن المكان ساحر هنا ، حيث يري البحر من كل جوانب القرية تقريبا كما أنه خليج حركة المياه فيه هادئة ” فقال لي وتعبيرات وجهه ونبرات صوته تبدوا  وكأنما يتغزل فيمن يعشقها ” : ” هل تعرف .. إن  هذا من أجمل المناظر التى يمكن أن تراها فى هذه الدنيا ، لقد سافرت في أرجاء الدنيا ورأيت كثيرا من الأماكن الجميلة  لكن المناظر هنا في مصر من أجمل ما وقعت عليه عيناي ، كم هي عظيمة بلادنا ، إني أقضي شهور الصيف كلها هنا ، ولا  أمل ولا أشبع  من النظر والتأمل في البحر طوال الوقت ” .

لقد  كان مراد غالب رجلا شغوفا بالمعرفة إلي آخر حياته ، حتى أنه قال لي إن شغفه بالمعرفة والإطلاع جعله  أثناء دراسته للدكتوراه في مجال الطب  يقرأ مكتبة كاملة فى الإقتصاد وعلومه ، كما أنه درس اللغة الروسية وأتقنها رغم صعوبتها وهي ما جعلته يفهم العقلية والنفسية السوفييتية و يقيم  علاقات واسعة داخل المجتمع السوفيتي

رجل يجيد الوصف

 ولكوني  أعشق البحر أنا  أيضا فقد كنت أنصت  باستمتاع إلي وصفه ،  وكان انطباعي الأول عنه أنه رجل    يجيد الوصف ورسم المشاهد والأحداث بشكل يخلب الألباب و يسيطر فيه علي المستمع ،  كما أنه يجيد  التعبير عما بداخله بعبارات جزلة بسيطة وأن  من يجالسه لا يمل منه ويشعر بسرعة  أنه قريب منه ، ولكوني  أحب الأستماع  والأنصات لاسيما لعذب الوصف وجميل المعاني  أكثر من حبي للكلام  ، فقد كنت سعيدا بالأنصات إليه ، وحبي للأستماع والأنصات يزداد حينما يكون المتحدث من أمثال الدكتور غالب ،ولعل هذه الصفات الشخصية هي التى جعلته قريبا من كثير من الناس الذين تعرف عليهم في حياته وجعل الكثيرين منهم  بشتي تناقضاتهم يحبون إقامة علاقات معه حتى من كبار  الزعماء السوفيت رغم أنه كان فى الفترة الأولي في موسكو  بين عامي 1953 و1957 سكرتيراً ثالثاً فى السفارة إلا أن السوفيت كانوا يقدمونه علي السفير ويوجهون الدعوات إليه حتى أن بعض رفاقه في السفارة وشوا إلي عبد الناصر وقالوا له : ” إن  مراد غالب أصبح سوفييتيا  ” ، كما كان بعض  السوفيت يقولون له حينما يتبسطون في  الحديث معه ويتحدثون عن بعض أسرارهم وخصوصياتهم ”  إننا ننسي فى بعض الأحيان أنك لست منا ”  حتى ان سائقه الروسي حينما شعر بشعبيته وقدرته علي نسج العلاقات بسرعة قال له : ” لو رشحت نفسك فى الإنتخابات هنا فربما تصبح عضوا فى مجلس السوفيت الأعلي ”  ، وحينما أعاده عبد الناصر سفيرا في موسكو عام 61 وبقي حتى استدعاه السادات عام 72 وعينه وزيرا للخارجية استطاع خلال تلك الفترة أن ينسج علاقات وثيقة عالية المستوي مع كبار الزعماء السوفيت وكان رجلا يجيد فهم ما حوله ، لقد  كان مراد غالب رجلا شغوفا بالمعرفة إلي آخر حياته ، حتى أنه قال لي أن شغفه بالمعرفة والإطلاع جعله  أثناء دراسته للدكتوراه في مجال الطب  يقرأ مكتبة كاملة فى الإقتصاد وعلومه ، كما أنه درس اللغة الروسية وأتقنها رغم صعوبتها وهي ما جعلته يفهم العقلية والنفسية السوفييتية و يقيم  علاقات واسعة داخل المجتمع السوفيتي وكان أوثقها مع خرتشوف الذي تحدث عن غالب في مذكراته ، وكان مراد غالب هو السفير الوحيد الذي تحدث عنه خرتشوف في مذكراته وقال عنه ” لقد كنا نحترمه ” .

 أخذت أوجه النقاش في تلك الجلسة  إلي ما يفيدني فى تسجيل الشهادة معه وجاءت السيدة الفاضلة زوجته فشاركتنا جانبا من الحديث لاسيما حينما ذهبت بصحبته إلي موسكو عام 1953 وانطباعاتها الأولي عن تلك الدولة فى ذلك الوقت ، ثم علقت التعليق الذي أسمعه دائما ممن يقابلني للمرة الأولي : ” تبدوا ألطف كثيرا في الحديث عن الشكل الذي تظهر فيه   التلفزيون حيث تبدوا حادا وقاسيا  مع ضيوفك وكأنك فى خصومة كبيرة معهم ، لكنك شخص آخر هنا ” فقلت لها ضاحكا  : ” سأكشف لك سرا لا يعلمه كثير من الناس ” قالت بشغف ” ماهو ؟ ” قلت لها :  ” الحقيقة أن  هناك شخص آخر يتلبسني حينما أجلس أمام الكاميرا  وأتعجب مثلكم تماما  مما يفعله مع الضيوف ، وأغضب أحيانا منه مثلكم ، وأستنكر ما يقوم به فأقول ماهذا الذي يفعله أحمد  منصور ؟  ” فضحكنا جميعا وتحول الجو إلي الألفة والتبسط .

عدم وجود سجادة صلاة

 ولخوفي أن ينقضي الوقت في الحديث ويفوت موعد الصلاة قلت للدكتور غالب  ببراءة تامة : ”  الآن لدينا فاصل قصير  … هل يمكن أن أجد لديكم سجادة لأؤدي صلاة المسافر للظهر والعصر قبل أن يفوت الوقت ؟ ” إلا أن الوجوم ساد بعد سؤالي فلم أتخيل أن يكون سؤالي محرجا إلي الحد الذي ظهر علي وجه  الدكتور غالب  فقد نظر إلي بحرج بالغ وتعجب من طلبي لسجادة الصلاة وكأني قادم من كوكب آخر  وقال لي بعد صمت وتردد   : “أخشي أن يكون طلبك هذا عزيزا  ، للأسف الشديد  ليس لدينا سجادة صلاة ”  ثم ازداد حرجه وهو يحاول البحث عن مخرج  لكني استدرجت بسرعة وقلت له بسرعة   : ” لا بأس .. لا بأس  سأدبر حالي ولكن أرجو أن تسمح لي بالذهاب إلي أي غرفة خالية  لأؤدي الصلاة فيها ثم أعود  ” ، كان الحديث أمام أحد الخدم الذي أسعفني بقطعة قماش نظيفة  صليت عليها ،  وكذلك فعل رفاقي الواحد تلو الآخر ، ثم عدت حيث تناولنا الغداء وواصلنا  النقاش معه حتى المساء .

لكن ظهرت هناك مشكلة من الناحية الفنية للتسجيل فقد   أبلغني مهندس الأضاءة أن المكان لا يصلح للتصوير نهارا ، كما أن التصوير ليلا سيكون مستحيلاً لأن المكان المرشح للتصوير ليلا سيكون مفتوحا ولا نضمن تواجد البعوض حول الأضاءة ، وبالتالي لم يعد لدي مجال للتسجيل إلا فى القاهرة فسألت الدكتور غالب عن موعد عودته للقاهرة ، فقال لي : ” سأعود  في أكتوبر ” ، شعرت بشيء من خيبة الأمل إلي حد ما لأني كنت لأني كنت مهيأ من الناحية النفسية للتحضير والدراسة ثم تحديد موعد للتسجيل خلال شهر أو اثنين علي الأكثر ، كما أني حضرت معظم الكتب عن المرحلة التاريخية  التى سأتناولها معه ولم يبق لي سوي جلسات الإستماع معه ثم البدء فى دراسة المرحلة وتحديد موعد التصوير لكن كل ذلك أصبح في حاجة إلي إعادة جدولة من جديد لأن   لدي أسفار  أخري خارج مصر من سبتمبر إلي نهاية ديسمبر فقلت له  : ” ولكني للأسف لدي ارتباطات وأسفار كثيرة خارج مصر حتى نهاية ديسمبر و يصعب علي تأجيلها  فلن أستطيع العودة قبل نهاية ديسمبر ”  فقال :”  إذن نحدد موعد بعد ذلك ” .

شاهد علي العصر

في تلك الفترة كان التعب والإرهاق والأسفار المتلاحقة قد بلغت بي مبلغها فقررت في نهاية العام 2006 أن أوقف تقديم ”  برنامج شاهد علي العصر ”  إلي حين ،  وأن  أتفرغ فقط  لبرنامج  ” بلاحدود ”  حتى آخذ قسطا من الراحة ، لاسيما وأنا المنتج والمقدم للبرنامجين والمسئول عن تحديد  الأفكار و الضيوف وأقضي الليل والنهار فى الإعداد  و الدراسة وألاحق الضيوف من بلد إلي بلد وبعضهم أقضي معه عدة أشهر وأحيانا سنوات حتى أقنعه بالتسجيل فالكثير من الناس حتى من المسئولين السابقين لديهم حساباتهم الخاصة مما يجعلني أدخل معهم فى مفاوضات شاقة ومطولة  لا يشعر بها المشاهد   مما يجعل جهدي شاقا ومرهقا ،  وبالفعل  أبلغت إدارة قناة الجزيرة بأني سأوقف تقديم  برنامج ”  شاهد علي العصر ” لمدة عام أو لعدة أشهر علي الأقل ،  حتى أرتاح قليلا من عناء الأسفار المتلاحقة و العمل الدؤوب في برنامجين شاقين في آن واحد هما ” بلاحدود ” و” شاهد علي العصر ” حيث لا أجد وقتا لعائلتي أو حتي  لنفسي ، وبعد جهد ونقاش مطول  وافق رئيس مجلس الأدارة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني علي ذلك ، لكنه اشترط علي  أن يكون التوقف لعدة أشهر و بالفعل بعد  عدة أشهر  طلب  مني  الشيخ حمد بن ثامر الذي تربطني به علاقة أخوة وصداقة في نفس الوقت أن أبدأ مرة أخري في إعداد وتقديم ”  برنامج شاهد علي العصر ”  لاسيما وأن فترة الأستراحة التى طلبتها قد انقضت ،فطلبت منه أن يمهلني عدة أشهر أخري ، لكنه قال لي بدعابة : ”  يكفيك هذا يا أحمد    وعليك أن تبدأ في أقرب فرصة ” .

مراد غالب

كان الدكتور مراد غالب أول من فكرت  بالاتصال به وكان ذلك قبيل  صيف العام 2006 لكنه كان سيذهب فى الصيف كعادته إلي  الساحل الشمالي  والتسجيل مستحيل هناك ، فأعددت نفسي  أن أسجل معه في الشتاء حينما يعود للقاهرة ، وبالفعل اتفقنا علي ذلك ، وصلت إلي القاهرة فاتصلت عليه لأعيد جلسات الإستماع معه حيث كان قد مضي عامين علي لقائي السابق معه ،  علماً بأني بدأت الإتصالات الأولي به من أجل التسجيل في العام 2002 ،  وأنا أحرص دائما علي أقضي مع ضيوفي كثيراً من الوقت في الحديث والدردشة قبل التسجيل لاسيما شهود العصر ، لأفتح مجالات لنفسي للنقاش والفهم ، وأحدد مسار الحلقات ومسار التحضير و القراءة التى تستغرق مني عادة  مع كل ضيف  عدة أسابيع وأحيانا أشهر ، كذلك أزيل شيئا من الرهبة والحواجز النفسية التى أجدها لدي بعض الضيوف ،  أو أمارس شيئا من محاولات الإقناع إن كان لدي الضيف تحفظ من الخوض فى مسألة من المسائل ، وفي النهاية أحدد مع الضيف موعد بداية التسجيل .

حينما التقيت الدكتور مراد غالب هذه المرة لم أتخيل  حجم التحول الهائل الذي وقع  فى حياة الرجل وتفكيره وآرائه خلال العامين اللذين  غبت خلالهما عنه

حينما سمع صوتي قال لي عبارته الشهيرة التى كانت تشعرني بالقرب منه ” أحمد .. إنت فين يا راجل ؟ ” قلت له : ” أنا في القاهرة ” وجئت للقائك ”  قال : ”  لكن  أنا لست فى القاهرة ، ولكني في مكان بعيد ؟ ”  قلت له : ”  هل هو أبعد من الساحل الشمالي ؟ ”  قال :  ”  لا ” ، قلت : ”  لقد جئتك فى خمس ساعات إلي الساحل الشمالي وبالتالي فأي مكان آخر أنت فيه سيكون  قريباً لي ”  ، وصف لي مكان إقامته في أحدي المزارع علي طريق مصر الإسكندرية الصحراوي حيث بني هناك فيلا يخلوا فيها مع نفسه  فى عمق الصحراء  .

تحول هائل

حينما التقيت الدكتور مراد غالب هذه المرة لم أتخيل  حجم التحول الهائل الذي وقع  فى حياة الرجل وتفكيره وآرائه خلال  العامين اللذّين  غبت خلالهما عنه واكتفت علاقتي به بالتواصل عبر الهاتف ، أو من خلال  السؤال عنه من خلال صديقي وابن أخيه المهندس محمد مراد  ، فالرجل الذي عرض علي في اللقاء الأول  أن يضيفنّي بشتي أنواع الخمور  ولم  أجد لديه سجادة للصلاة وجدته هنا في الصحراء شخصا آخر  ،  يكثر الحديث في كلامه  عن الكون وخالقه والعلاقة بالله  ،  حتى أني شعرت أن هذه الفيلا التى بناها فى قلب الصحراء والتى يقضي فيها  نصف  أيام الأسبوع  كما أخبرني ، وكأنها صومعة راهب يخلو فيها ليتعبد و يتفكر فى الكون وخالقه علي طريقته الخاصة ، وإذا به أثناء الحديث يؤكد لي ذلك ، فأنا لم يسبق لي أن تحدثت معه أو ناقشته في معتقداته الخاصة ، وعادة لا أخوض مع الآخرين فى معتقداتهم ،  ولم أعلق علي التحول الذي لا حظته بين زيارتي الأولي والثانية ،  ودون أن أخوض معه فى خصوصياته أوحي لي أنه حاول أن يستعيد فى خلواته فى الصحراء كثيرا مما فاته في حياته ، وكثيرا مما لم ينتبه إليه ، وأنه يقضي الوقت فى القراءة والتأمل والتفكير بعيدا عن البشر ولايوجد حوله  إلا العمال و الخدم  ، قضيت معه معظم اليوم هو يتحدث بإسهاب أتركه عادة لضيوفي في جلسات الأستماع والتحضير هذه ، فأخذ يتحدث   وأنا أدون ملاحظاتي وأنتقل من فقرة إلي أخري وأنا أشعر معه أني خارج نطاق الزمن ، فشعرت أني أمام كنز إنساني  وخبرة هائلة في الحياة والناس والفكر والسياسة  وليس مجرد شاهد علي العصر .

حدثني عن أشياء كثيرة منها أمور شخصية وحياتية وعلاقات إنسانية ورؤي سياسية ، وكان مما حدثني عنه ابنتيه المهاجرتين إلي كندا  مني وهدي وأحفاده منهما وكم يشعر بالأسي لأنهم أصبحوا مثل الكنديين أو كنديين كما قال بالنص ،  وكم كان يتمني أن يعودوا إلي مصر جميعا للإقامة فيها ،  وأنه يحاول إغراءهم بالأماكن الجميلة في مصر لعلهم يفكروا في العودة والإقامة بها لأنه يتمني أن تكون أيامه الأخيرة إلي جوارهم   ،  ثم حدثني بألم عن أسباب الهجرة لكثير من المصريين في بلد لم يكن أهلها يفكرون في الهجرة منها  قبل خمسين عاما بل كانت علي مدار التاريخ بلداً يشكل جذبا لكل من يعرفه حتى يهاجر إليه ويقيم فيه وكانت  فيه جاليات مقيمة  من كل أصقاع الدنيا لازال هناك بقايا من أهلها يونانييين وأرمن وفرنسيين وإيطاليين بخلاف كثير من العرب والعجم الآخرين  ، وقبل أن ينقضي اليوم أخذني فى جولة داخل  الفيلا وخارجها ، وقال لي إنه بصدد شراء جهاز جديد لطرد الناموس و الحشرات ليلا خارج الفيلا  لأنه يحب صفاء الليل  ويحب أن يقضيه خارج الفيلا ليتأمل فى السماء ، ثم قال لي بجدية : ” لابد أن تفكر من الآن في أن يكون لك بيت مثل هذا هنا في عمق الصحراء ستشعر أنك تعرف الطعم الحقيقي للحياة حينما تخلوا فيه مع الكون  وخالقه  بعيدا عن الناس وعن صخب الدنيا  ” ثم انتقل من مجرد الطلب إلي أن قال لي بجدية  : “يوجد هنا  قطع  معروضة للبيع يمكن أن تشتري واحدة منها  إن فكرت في الأمر ، لا تتردد و لا تأخذ قطعة كبيرة ، وإنما صغيرة مثل قطعتي فقط فدانين كافيين ، تبني عليها فيلا صغيرة وحديقة جميلة  مثل هذه تكون ملاذك من صخب الحياة .. لن تندم ، وستشعر أن للحياة مذاق آخر ” .

 ودعته مع نهاية اليوم ثم جلست معه مرات  أخري أنصت إليه وأدون ملاحظاتي  وهو يتحدث عن تفاصيل بعض الأدوار السياسية التى قام بها وكيف كانت علاقته مع جمال عبد الناصر ثم بأنور السادات من بعده ولماذا اختلف مع السادات  وقدم له استقالته عبر خطاب حاد حينما كان سفيراً فى يوغوسلافيا آنذاك وذلك احتجاجا علي ذهاب السادات إلي القدس  عام 77 وكان هو الوحيد من السفراء مع الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كان سفيرا لمصر فى لندن اللذّين قدما استقالتهما احتجاجا علي زيارة السادات للقدس ومعهما وزير الخارجية آنذاك إسماعيل فهمي .

سجلت ثماني حلقات مع الدكتور مراد غالب أفاض فيها في الحديث عن تفاصيل  كثيرة تتعلق بالأشخاص والأحداث ، وكشف كثيراً من الأسرار التى ربما تحدث عنها للمرة الأولي ، كما قدم وصفاً وقراءة لكثير من الشخصيات التى لعبت دوراً فى فترة الخمسينيات والستينيات

 ثم حددت معه موعدا للتسجيل ، وماحدث أثناء التسجيل لم أكن أنتظره أو أتوقعه من رجل كان ما يقدمه لضيوفه قبل سنوات  هو كل أنواع الخمور ولم يكن في بيته سجادة صلاة  فقد كان الدكتور غالب يؤدي الصلاة أثناء استراحات التصوير علي سجادة صغيرة في الأستوديو ،  كانت جزءا من الديكور الذي صممه ونفذه بإتقان وبراعة  ابن أخيه المهندس محمد مراد ، ولم أكن ألتفت لنوع السجادة الصغيرة التى اشتراها مراد ووضعها في جانب من أرضية الديكور لكنها كانت تبدو فخمة ، فكان تعليق الدكتور غالب عليها بعدما أدي الصلاة أنها ”  سجادة من الحرير الممتاز ”  فقلت له : ” إن الذي اشتراها هو المهندس مراد وقد اهتم بك كثيرا وبكافة تفصيلات الديكور ، حتي أني حينما أخبرته وأنا أتفق معه علي بناء الديكور أن عمك هو أول من سأقوم بالتصوير معه فيه بذل جهداً كبيراً في كل تفصيلاته وتفنن في إتقانها   إكراما لك ” فأثني الدكتور غالب علي المهندس مراد ثم قال : ” لقد كان هذا رأيي فيه منذ أن كان طفلا صغيرا ، وقلت لهم إن هذا ولد ذكي وسوف ينجح في الحياة  ، وحينما أراد أن يدخل معهد السينما اعترضت العائلة كلها بشدة علي ذلك لكني أنا  الذي وقفت إلي جواره حتى دخل معهد السينما ودرس الديكور وأصبح ناجحا كما توقعت له ، لكني لم أتخيل أن يأتي يوماً أن يُعد  الديكورا لبرنامج سيسجل  معي ،  ولهذا فأنا سعيد  ” ، فقلت له : ” أنا لا أنسي أن أول برنامج قدمته من القاهرة قبل حوالي عشر سنوات كان هو الذي أعد الديكور الخاص به ، ومن يومها قامت صداقة بيننا  لكنه كان مهندس ديكور صغير آنذاك ” ضحكنا جميعا ثم واصلنا تسجيل الحلقات .

سجلت ثماني حلقات مع الدكتور مراد غالب أفاض فيها في الحديث عن تفاصيل  كثيرة تتعلق بالأشخاص والأحداث ، وكشف كثيراً من الأسرار التى ربما تحدث عنها للمرة الأولي ، كما قدم وصفا وقراءة لكثير من الشخصيات التى لعبت دورا فى فترة الخمسينيات والستينيات فى مصر .

 تحدث باستفاضة عن العلاقة الخاصة التى ربطته مع صلاح الدسوقي وكمال رفعت وحسن التهامي مع  الفريق عزيز المصري  وعن دوره  فى الثورة وما بعدها في الوقت الذي كان يحتفظ فيه بعلاقات خاصة مع العائلة الحاكمة ،  وكيف أن عبد الناصر أبعده سفيراً في موسكو حتى يتخلص منه   ومن وساطاته الدائمة لمن تبقي من عائلة محمد علي في مصر ، ثم تحدث باستفاضة شديدة  عن عبد الناصر وتركيبة شخصيته ونفسيته  من كافة الجوانب وكيف كان يدير الدولة ، لاسيما وأن  غالب ظل مستشاراً سياسياً له لمدة عام ،  كما تحدث عن الرجال الذين كانوا حول عبد الناصر  لاسيما عبد الحكيم عامر وكيف كانت علاقة كلا الرجلين ببعضهما وعلاقة كل منهما  بالسوفيت وكيف أن السوفيت كانوا ينظرون دائما إلي عبد الناصر أنه رجل الولايات المتحدة الأمريكية وكيف كان رأي خرتشوف في عبد الناصر وإدارته للدولة وكيف صارح خرتشوف عبد الناصر بذلك أثناء زيارة خرتشوف لمصر ، وكيف غضب عبد الناصر من ذلك وطلب من غالب أن يأخذ خرتشوف إلي الفندق ، فغضب خرشوف وقال لمراد غالب ” قل لصاحبك عبد الناصر إذا كان يريد بناء مصر فعليه أن يبني الإنسان المصري أولا ” .

غالب أكد أنه أبلغ عبد الناصر أن الحرب سوف تندلع يوم الخامس من يونيو وكذلك أبلغه التشيك لكنه لم يفعل شيئا و لم يكن يستطيع، لأن الجيش كله كان تحت سيطرة عبد الحكيم عامر آنذاك .

تهريب عائلة لومومبا إلي مصر

كما تحدث عن أسباب  حب السوفيت  لعبد الحكيم عامر  أكثر من  جمال عبد الناصر ،  وكيف كان السوفيت يتعاملون مع المصريين لاسيما فى مجال التسليح وقصة صفقة السلاح الأولي لمصر فى سبتمبر عام 1955 التى سمبت بصفقة الأسلحة التشيكية ،و لماذا لم يقدموا للمصريين أحدث أنواع السلاح  ، وكان دعمهم لمصر من أجل أن تدافع عن نفسها وليس من أجل أن تزيل إسرئيل لأن إسرائيل كانت خطاً أحمر ، وشرح بإسهاب كيف كان الزعيم السوفيتي خرتشوف يحب مصر وكيف أعطي لمصر والمصريين مالم يعط أي قطر آخر موال للسوفيت حتى أنه  كان من أسباب إقالته اتهامه من قبل مجلس السوفيت الأعلي  بأنه أعطي للمصريين ما هو أولي أن يعطيه للشعب السوفيتي  ، كما كشف كثيرا من التفصيلات والأسرار عن أزمة الكونغو التى وقعت عام 61 حيث كان سفيرا لمصر هناك وطبيعة الدور المصري فى إفريقيا آنذاك وكيف قام غالب بتهريب عائلة الزعيم لومومبا إلي مصر ،  ثم تحدث عن هزيمة العام 67 وأسبابها وكيف لعبت العلاقة المعقدة والصراع  بين عبد الناصر وعامر علي الجيش  دورا رئيسيا في وقوعها ،  وكيف قاد الصراع بينهما  إلي الهزيمة .

هزيمة 67

ومن آخر ما كشفه فيما يتعلق بهزيمة العام 67 تفاصيل زيارة شمس بدران وزير الحربية المصري إلي موسكو قبيل أيام من الهزيمة تلك الزيارة المثيرة للجدل والتى ذكر فيها بدران أن السوفيت تعهدوا بالوقوف إلي جوار مصر إذا نشبت الحرب ، بينما نفي غالب ذلك نفيا قاطعا كشاهد عيان علي كافة تفاصيل الزيارة ، الأخطر من ذلك أن غالب أكد أنه أبلغ عبد الناصر أن الحرب سوف تندلع يوم الخامس من يونيو وكذلك أبلغه التشيك لكنه لم يفعل شيئا لأنه لم يكن يستطيع أي شيئ لأن الجيش كله كان تحت سيطرة عبد الحكيم عامر آنذاك . كانت خطتي بعد جلسات الإستماع والحوارات المطولة ودراسة الفترة التاريخية من كثير من الكتب طوال ثلاثة أشهر ، أن أسجل عشر حلقات مع الدكتور مراد غالب ، غير أني سجلت ثمانية فقط وبقيت  حلقتان عن الأيام الأخيرة في حياة عبد الناصر وصراعه مع عامر وعلاقة غالب  بعد ذلك مع السادات ،  فأبلغته أني مضطر للسفر لارتباطات أخري مسبقة في برنامجي الآخر ” بلاحدود ” أقدمها من عدة أقطار ،   وسأعود لاستكمال الحلقتين في أقرب فرصة  .

وفاة مراد غالب

اتصلت به بعد ذلك وحددنا حددنا  أكثر من موعد ، لكنه كان يعتذر هو  عن بعضها لظروف طارئة ، وكان من الصعب علي أحيانا أخري  أن أغير اتجاه أسفاري وارتباطاتي الكثيرة  ، وكان آخر موعد حددته معه فى شهر مايو  2007 لكنه اتصل بي  واعتذر قبيل الموعد  بأيام وقال إنه طرأ لديه ارتباطات قد تمتد لأسبوعين ، فأبلغته أن لدي دورة دراسية فى بريطانيا قد تمتد لثلاثة أشهر تنتهي فى سبتمبر ، فأخبرني أنه سيذهب أيضا  لزيارة بناته وأحفاده  فى كندا ، فاتفقنا علي أن نتواصل بعدها ،لكنه لم يعد من كندا  إلا في شهر نوفمبر ، اتفقنا  بعد عودته من كندا  أن نلتقي في مصر في منتصف  يناير لاستكمال الحلقتين المتبقيتين كما اتفقت معه علي أن أقدم معه حلقة في برنامجي الآخر ”  بلاحدود ” علي الهواء مباشرة  حول موضوع تناقشت معه مطولا فيه وهو  ” فرص التنمية المهدرة فى العالم العربي ووسائل النهوض بالإنسان  ”  وهو موضوع كان يلم به إلماماً كبيرا  وسبق أن قضينا وقتا ممتعا في النقاش حوله ، غير أن أقدار الله سباقة فقد توفي الدكتور مراد غالب بشكل مفاجيء   صباح يوم عرفة الثلاثاء الموافق الثامن عشر من ديسمبر الماضي 2007   عن عمر ناهز الخامسة والثمانين ، وكان آخر ما قام به هو أنه رأس قبيل وفاته بيومين ندوة نظمتها منظمة تضامن الشعوب الأفرو ـ أسيوية التى كان يرأسها عن العلاقات العربية الإيرانية والتطورات في أزمة الملف النووي الأيراني ، حقا لقد  تألمت حينما علمت بالخبر ، ليس لأني لم أكمل تسجيل الشهادة معه فقد سجلت معه لب شهادته عن العلاقات المصرية السوفيتية ، ولم يبق إلا القليل الذي لن يؤثر كثيرا علي  مجمل الشهادة ،  وعادة لا آسي علي شيء فاتني فكل شيء بقدر ، ولكن لا أدري ما الذي جعلني  أشعر بقرب نفسي من هذا الرجل صاحب الهدوء النفسي العجيب ،  لاسيما بعد جلسات النقاش المطولة  في جو الصحراء النقي والصافي ، حتى أني شعرت للحظات  أن  أهل الدكتور غالب  حينما توفي  لم يكونوا وحدهم  يتلقون  العزاء فيه بل إني فوجئت أن معظم  زملائي الذين كانوا يعرفون أني سجلت معه أو شاركوا معي في أي من مراحل تنفيذ  الحلقات  يتصلون بي ويبلغوني العزاء فيه رغم أني لا أمت له بصلة قربي .

أعدت مشاهدة حلقات شاهد على العصر التى سجلتها معه والتى بدأت قناة الجزيرة بثها قبل أيام بعدما كتبت معظم  أجزاء هذا المقال  فوجدتها بحق من أهم الشهادات التى سجلتها مع مسؤولين مصريين حول تاريخ مصر الحديث لاسيما سنوات الخمسينيات والستينيات  وأعتقد أنها سوف تثير خلال بثها الذي بدأ الآن علي شاشة قناة الجزيرة  نقاشات جادة و مطولة بين المثقفين العرب بشكل عام والمصريين بشكل عام  لما فيها من مصداقية عالية فى الحديث وتناول لقضايا كثيرة   تعتبر حساسة  وربما لم يتحدث عنها أحد بشكل واضح من قبل  ،  فالرجل كان  يتحدث حديث المودع للدنيا الذي يقول ما يؤمن به دون أن يخشي لوما من هذا أو نقدا من ذاك  ويكشف عن أمور كثيرة ربما للمرة الأولي ، رحمه الله رحمة واسعة .

حلقات مراد غالب

Total
0
Shares
السابق
أحمد منصور

معركة الفلوجة (2) : الأهالي يتوعدون القوات الأمريكية إذا دنسوا المساجد

التالي
طلال بن عبد العزيز

الأمير طلال يكشف كواليس عزل الملك سعود

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

اشترك الآن !


جديد أحمد منصور في بريدك

Total
0
Share